جذرية العلاقة بين العلم والفن- طالب عبد الأمير




تاريخياً، كانت علاقة العلم بالفن تبدو وكأنها علاقة بين الأدب والعلم، باعتبار أن الأدب هو أكثر الفنون شيوعاً وأسرعها تأثراً بالواقع الاجتماعي وأغناها فيما يتعلق بتعدد مواده التعبيرية التي تشحن أحاسيس الناس من أجل توصيل رسالته الإنسانية. والعلم من هذه الزاوية أيضاً يخدم حاجات الناس العملية ويمدهم بمعرفة القوانين الموضوعية ويزيد من تفاعلهم مع الطبيعة والاستفادة من مكنوناتها.. إذن فهدف الفن والعلم بهذه الصيغة واحد، وهو تطوير مدارك الإنسان، ورفع مستواه الثقافي والاجتماعي، وبالتالي تغيير العالم، وذلك على الرغم من اختلاف الموقعين، ففي حين تعبر فنية الأدب عن إدراك حسي انفعالي خيالي، يفصح العلم عن إدراك عقلي ملموس. إن تسليط الضوء على هذه العلاقة من هذا الجانب تعيدنا إلى العصور التاريخية التي ظهرت فيها الفلسفة كأقدم علم عرفته البشرية، بل وبأكثر دقة إلى بداية العصر الإغريقي، حيث السؤال التاريخي الكبير الذي جلبته الفلسفة: هل يمكن معرفة العالم؟ لنواصل بعد ذلك الغوص في مكنونات هذا العلم وفهم طبيعة عناصره وتفاعلاتها عبر العصور
وفي طوفان هذا التفاعل، كان الجدل حول علاقة الفن بالعلم يتجلى في فهم جوهر المعرفة. في فهم طبيعتها وارتباطها بالعلم ومقدار قوة الأواصر التي تربط المعرفة بالفن في ذات الوقت
وكانت الخلافات التاريخية إزاء هذه العلاقة ترسو قبالة ضفتين: ففي حين شقت اتجاهات تقليدية طريقها بنفي وجود أية علاقة بين الفن والمعرفة وحددت ارتباط المعرفة بالعلم فحسب، برزت في سياق التعمق في فهم عملية المعرفة مدارس تحاول التأكيد على قوة هذه العلاقة. وبين هذين التيارين، وكنتيجة منطقية للعملية الجدلية عندما يبرز الصراع بين فكرين مختلفين حول قضية ما، هنالك التيار الثالث الذي أخذ يراوح في مكانه وهو يعلن تشككه بعلاقة الفن بالمعرفة تارة ويبدي الاقتراب من استيعابها تارة أخرى، حتى أخذ اقترابها وبعدها في هذه العلاقة أشكالاً شتى. ولو تتبعنا في بحث استقرائي تاريخية هذه الظاهرة لتوصلنا إلى أن النزعات والاتجاهات التي انحدرت من أصول الفكر الميتافيزيقي، المثالي هي التي تقر بثنائية العلم والفن وعدم التقائهما، رغم أن ثمة توجهات تتوكأ على سند التحليل المثالي للظواهر حاولت استيعاب هذه العلاقة ولكن بفهم مثالي. ولعل الفيلسوف الإغريقي (سقراط) هو أول من توصل إلى وحدة الفن والعلم، ولكن بفهمه الميتافيزيقي، حيث رأى، من خلال التجريد المنطقي للصفات المشتركة للأشياء، أن المفهوم هو جوهر المعرفة. وهذا الاستنتاج قاده إلى المفاهيم المتعلقة بحياة الإنسان ونشاطه العقلاني، وبشكل خاص نشاطه على صعيد معرفة الذات. وعلى أساس هذا الاكتشاف جاء بموضوعته الشهيرة «اعرف نفسك» التي انطلقت من معرفته المثالية لمفهوم الجمال وفكرته التي صاغها استناداً على هذا الفهم وجملته الشهيرة «إن كل ما هو معقول جميل». فالإحساس بالجمال، حسب رأي سقراط، لا يمكن تلمسه إلا بالعقل، ومعرفة الجمال هي معرفة الحياة، وسقراط ينظر إلى الفن بمقدار معرفته بالحياة، وبما أن للحياة هدفاً «معقولاً»، فللفن بالضرورة وظيفة معقولة وهدف معين، الفن بجماليته لم يكن في يوم ما تهريجاً بهلوانياً، من هنا لا يجد سقراط في الرقص، على سبيل المثال، فناً إلا من خلال كونه أداءً جميلاً هادفاً إلى تنمية الجسد. والفن من هذه الزاوية يعادل المعرفة في سياق سعيها نحو بلوغ هدفها وأداء رسالتها في الحياة
ثم يجيء أفلاطون ليقلب بمفهومه المميز للجمال فهم سقراط له ليشير إلى أن الجمال ليس في الفن، بل هو في الحياة ذاتها. كما أنه يرى في علاقة الفن بالمعرفة ثنائية وترابطاً في آن واحد. إن الجمال حسب قول أفلاطون يوجد موضوعياً وبشكل مستقل في وعينا، وعلى هذا الأساس فالجمال الحقيقي لا يكمن في العالم المادي، بل في الأفكار الغيبية. إن هذه النظرة لعلاقة الفن بالعلم تجد جذورها في النظرة المثالية نحو العلم وفي أساليب البحث ودراسة الظواهر الطبيعية والتاريخية التي تنكر دور عملية الصراع والحركة وأسبقية المادة على الوعي وما إلى ذلك
من جانبها جاءت المادية الديالكتيكية لتدلي بتفسيرها حول الطريق الذي تراه مناسباً لمسير البشرية نحو النمو والتقدم، الخ، باكتشافها قوانينها الخاصة المتعلقة بتطور العالم المادي. فقد ربطت المادية الديالكتيكية والتاريخية بين أهم ظاهرتين في سياق المعرفة وهما العلم والفلسفة، مؤكدة أن تطور العلوم الطبيعية من شأنه توثيق علاقتها وتأثيراتها المتبادلة على الفلسفة. وقد تبنى الفكر الماركسي هذه العلاقة لشموله قوانين الصراع والحركة والتطور.. واستخدمت أسس هذا الفكر كأدوات لمعرفة ظواهر العالم المادي، ولفهم مجمل النشاط الإنساني في سياق العملية التاريخية
فأكدت الماركسية على جدلية العلاقة بين العلم والفن، متخذة من نظرتها لعلم الجمال منطلقاً لتحليلات هذه العلاقة، عندما تربط بين الفن والواقع بعلاقة معرفية تشكل شرطاً ضرورياً لحياة الفن ذاته
إن اهتمام علم الجمال الماركسي بعلاقة العلم والفن، من جهة، وعلاقة الفن بالواقع من جهة أخرى، جعل هذا العلم يرى في هذا الترابط استجابة للاستقلالية النسبية للنشاط الفكري في إنجاز عملية الخلق الفني. وذلك بالرغم من تأكيد هذه النظرية على أن الدور الرئيسي في تشكيل الطابع التاريخي للفن يعود إلى القاعدة المادية الاقتصادية، وأن الفن والعلم يشكلان جزءاً من البناء الفوقي الذي يخدم القاعدة
إن هذه الاستقلالية نجدها عند كارل ماركس عندما يتحدث عن وجود مراحل معينة في تطور العلوم والفنون لا تخضع للتطور الاقتصادي والاجتماعي العام ولا تتطابق مع أسسه المادية. وقد لاحظ ماركس أن الفن قد ازدهر في عصور لم تكن وصلت إلى درجة من التطور المادي العام، وأساليب إنتاجها كانت بدائية. والفن الإغريقي وروائع شكسبير المسرحية، وموسيقى المؤلفين الروس الساحرة في القرن التاسع عشر، ورسوم فناني النهضة وغيرها نماذج حية تدل على عدم وجود حتمية في ارتباط الفنون بتطور القاعدة المادية لاقتصاد المجتمع. وقد عزز الفيلسوف الإنجليزي (فريدريك انجلز) هذه النظرة بقوله «إن البلدان المتخلفة اقتصادياً بإمكانها أن تعزف على اللحن الأول في الفلسفة، كشأن فرنسا في القرن الثامن عشر بالنسبة لإنجلترا، إذ اعتمد الفرنسيون على فلسفة الإنجليز. وهكذا الألمان بالنسبة لفرنسا وإنجلترا». إن هذا الكلام، وإن كان يعني الفلسفة بالدرجة الأولى، فبالإمكان تمديده ليشمل الفن أيضاً، لأن الفن والفلسفة يشتركان في كونهما يحملان إنجازات متنوعة لعملية التفكير المنبعث من أشكال الوعي الاجتماعي العليا، ولا يوجد منتوج فني يخلو كلياً من مضمون فكري معين
هكذا نجد أن ثمة أسساً لترابط العلم والفن، حتى قبل أن تهب عواصف ثورة المعلومات، لكن هذه الثورة أسهمت في تحديد أطر هذا التفاعل والالتقاء وفق مفاهيم أكثر عصرنة وتماشياً مع المتطلبات المستجدة. فكل شيء الآن ينظر إليه من خلال عدسة المعلوماتية وثورة تقنية المعلومات

نشرت هذا المقال في صفحات المرصد الثقافي في وسائل التواصل الإجتماعي بتاريخ 5 يوليو 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي