قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

 

د. محمود حمد

بيت الزبير- 23/9/2024 

 


 

   الشعر صوت الذات الحساسة من الاتصال بما لا يكون في تداولات الخطاب وتبادله، رسمٌ باللغة وتلوين بمفارقاتها، وحين تقف الذوات أمام تحوّلات العالم بكوامنها مصطدمة بما لا تفهمه مما صنعه العلم وشكّلته عمليّات البشريّة الصناعيّة والعلميّة؛ تلجأ إلى طفولتها المؤجلة لكل حقبة زمنيّة في الفنون عامّة وفي الشعر خاصّة، تشير إليزابيث درو إلى طاقة الشعر في أنّ شقاء الإنسان يرجع إلى إدراكه بإن الذات حبيسة؛ تتبدّد طاقتها الحيويّة عبثا في صراع داخليّ يعبّر عنه الشاعر في عمل أدبيّ خالد؛ ترى درو بأنّه فكّ قيده مؤقّتا وبارح محبسَه ولو إلى حين؛ لأن عمليّة الخلق انطلاقٌ وإن بقيت إنسانيّته ضحيّة تناقضاته الداخليّة، وما تعنيه هي بالتناقضات هي مادة الخلق نفسها من جهة ثانية، فالفن بكلّ أشكاله لا يمكن أن يتمّ بالتصالح الذي يدّعي بعض ملامحه الفن الواقعيّ؛ لأن المواجهة التي يمكن أنْ تفهم من محاولة الخروج من القيد هي فعل الخلود الذي يحققه الفن الإنسانيّ.

   لماذا الشعر من بين الفنون، لعلّ استثماره لمادّة التواصل اللفظي اليوميّ في مفارقة خطابه من ناحية جعلته متميّزا بهذه العلاقة بالإنسان، إضافة إلى حاجة الإنسان إلى التعبير وإنْ لم يبدأ مختفيا خلف ملفوظاته، وهذا الجانب أهّله ليكون قليلا في كثير من البشريّة التي هي بحاجة ماسّة إلى حياة أخرى خفيّة تعبّر عن مكنوناتها بأنواعها، والمسافة التي نعنيها ـــ والتي ميّزت الشعر عن غيره من الفنون ــ هي أنه لا يكلّف سوى العودة إلى الذات كما هي؛ إذ الحساسية والخيال والموقف والقدرة على التعبير هي كل ما يشكل فنيّة الشعر، وهو بالتالي أصل هذه الحساسية، والشعور، وإنّما سمي الشاعر شاعرا كما يقول ابن رشيق لأنه يشعر بما لا يشعر له غيره، فهو إذا يولد من الرغبة في الخروج إلى التعبير للاقتراب مما يجعله أقرب إلى حقيقة الذوات، وهي المسافة بين المعقول واللامعقول، أو كما يؤكد كارلوس يوسونيو أن الشعر لم يكن منطقيّا على مرّ العصور؛ وقد توغّل في ذلك كبعض الفنون وعلى رأسها الفن التّشكيليّ، لكنّنا نجد هذا الأخير وغيره من الفنون الأخرى تدفع إلى البحث عن أدوات لتشكيل هذا الخلود البشريّ.

   لماذا نحضر الفن التشكيليّ قريبا من الشعر ؟، إن الخيال والحلم والاستدعاء مستويات مختلفة ترتبط بدرجة الوعي، ليس كل خيال يؤدي إلى نوع من أنواع الفن، ولهذا فالتّصور الذي يحضر في دراسات الفنون بأنواعها هو ردة فعل الحساسية، ناقشها أستاذنا عاطف جُودة في عرض القضية بمقولات متنوّعة تعود إلى اليونان والعرب القدماء، لتصل بعض هذه المقولات إلى إحالة التخيل إلى الإحساس، وبأن هذا الأخير إضافة إلى الإدراك أصل التّخيّل. إننا نعني هنا القدرة على تصوّر الموقف أو الشعور بوعي فنّي، لهذا يتحوّل التصور إلى عمل معبّر؛ يكون لغة أو عملا ملموسا ومشاهدا، وفي الفن التشكيليّ تؤدي الأدوات اللونيّة إلى الصّورة، كما أنتجت الأدوات اللفظيّة إلى الصورة، فالأول يتحقّق صورة، والثاني كما يقول بول ريكور (الشعر صورة)، وهذه الصورة في رأي أستاذنا عاطف جُودة هي أثر الخيال المبدع ـــ تمييزه عن خيال مفارقة الواقع المُعَاش ــ تتميّز بما تنطوي عليه من لا نهائيّة وانقسام؛ لأنها تتشكّل من المُدرَك الحسّيّ، وترتبط بالمحسوس لكنها تعلو عليه في آن واحد، فيتأسّس التّوتّر والديالكتيك، وهو فعل الصّورة حين تتحقّق في شكلها النهائيّ بما تبعثه من قلق وتساؤل.

   الشعر إنصات للصمت، والفنّ التّشكيليّ استنطاق مشاهد له، وهو يلتقيان في التّصوّر ويشتركان في التعيين ويتقاربان في التشكيل، ولنا أنْ نتخيّل الرسم بالكلمات في الرّسم والتركيب اللفظيّ بالألوان في الشعر، بل إن كلود عبيد تراهما يصدران من المَلَكَةِ الإدراكيّة، ينبعان من المجال النفسيّ ذاته ويؤثّران في المتلقي من خلاله، كما يشتركان في قدرات الفنان النفسيّة وفي إعادة تشكيل الواقع جديدا وتجاوزه معا، وفي تحسين المفهوم وتقديم النموذج الفنّي وتعميمه، باختلاف مادّة التشكيل. نعم إنهما يوظّفان أدوات من طبيعة مختلفة جدا، لكنّ الإبداع في أنْ تكون هذه الصّورة قابلة للترجمة بينهما، وعلى الرغم من الفرق بين اللغة الملفوظة في مفارقتها الفنّيّة وبين تشكيل الألوان في طبيعتها المحسوسة؛ إلا أنّ المقاربة بينهما تقوم على تشابه أدوات القراءة كثيرا، فالصورة الشعريّة على اختلاف شعريّة تجارب فتراتها الزمنيّة تستدعي المحسوسات باختلاف طبائعها، وصورة الفن التّشكيليّ تستثير الملفوظ في مقاربات قراءتها وتلقيها.

   إن اللغة التي يتعالق فيها التصور المشترك بين الشاعر والرّسام مادّة قادرة على توليد تصوّرات إضافيّة في كل تركيب، وعندما سمّيت اللغة البلاغية في خطاب انحرافا فلأنها تخرج عن معنى رسالة التواصل المتعلّقة بالمباشرة الخطابيّة، هذه اللغة في تشكيل الصورة عند باشلار الوسيط الذي يستحضر الوجود في طبيعته الماديّة، فلا يمكن له أنْ يتجلّى وينبثق بدونها. نعم هكذا يتمّ التداخل بين هذه الرؤى الفنيّة من حساسية الفنان، فيتحوّل التشكيل إلى تجلٍّ للعالم في الذات أو للذات أمام سطوة العالم، تقول كلود عبيد : "الإنسان لا يستطيع صياغة تصوّرَاته للعالم إلا بتحويلها إلى رموز بمعنى الانتقال من الصورة إلى علامة لهذه الصورة. وبالتالي فإنّ كل تمثّلٍ فنيّ للعالم ... يفيد بالضرورة من المادة الخاصّة به، تمثّلٌ وعَاهُ الفنّان بشكلٍ لغويّ بَداءَةً ". فيتصوّر باللغة شكل الرؤى ويحمله المعنى إليه أو يحمله هو بالمعنى.

 

   مَنْ أقنَعكَ بِماء الحياةِ والخلودِ

فيما عداهُ أيّها الطائر ؟

لا تُصدّقُ جرّةَ الفخّار والخَديعَةِ

أنا لوَّنُتها بيدي لتكونَ لأزْهَارِ زينَةِ النّوفذ

لا تَضَعُ في جوفِها حَجَراً آخرَ

ليرْفَعَ الماءَ لكَ على رَأسِه كمَا

يرْفَعُ في الفجر الأطْفالُ الموتى

مياهَ الأعْماقِ إلى فَمِ النّبع

 

   هذه لوحة الفنّان الأولى التي تجرّأتُ على مقاربتها معه بتلقٍّ متواضع ذات ليلة من ليالي مدينة صفاقِس التونسيّة من عام ألفين وستة عشر؛ كنت أحاول توضيب أدوات الفنّان الشاعر أمامي لأجعله يعترف بألوانه وعوالمه، فالتفسير خارج فكرة النقد محاولة لإعادة الصورة في مستويات الدّهشة؛ حيث قَدر الصّورة أنْ تستعيد عوالم أخرى بعيدا عن موقف الفنّان والمتلقي.

   كانت لوحة عرفتُ بها الصديق الشاعر الدكتور محمّد الشّحي، وحاولت فهم الحقيقة الموجودة تحت ركام كلّ شيء، فإذا نزاع الفنان والشاعر يؤسّس المعنى فيفيض جمال الفن على الأشياء، وعدّدت سريعا في داخلي الحقول الدلاليّة التي شكّل الشّحي مادة صورته الفنتازيّة الجداريّة بأدوات لغته، روح طائر تتقمّص بشريّ أمام خديعة الأشياء، والواقف من بعيد ماهرا يعترف بهشاشة الملموس، والحاضرون أرواحٌ ينتشلون البياض الملموس بين الحلم والحقيقة، من الحاضر في هذا التّكوين بين الرّوحي واللونيّ، إضافة إلى الخيط الدقيق بين الملامسة الرّوحيّة التي يشكّلها الشاعر، والحقيقة العرفانيّة التي لم أكن أفهم ظلالها على أنفاس الذات في النّص، ولم أكن أنشغل بما خارج حدود الصّورة التي كرّرت المشهد الحيّ فيها، لأن قراءة الصّورة في الخطاب يستدعي كثيرا من الحذر في تفعيل تلقٍّ فنّي؛ إذ الأمر يبدو أكثر من كونه انحيازا إلى الملموس الذي توظّفه صورة الشاعر، أو أنْ نعتبر الصورة تأسيس علاقات بالمحسوسات التي أنتجها الشاعر من تنوّع الحقول الدلاليّة، والانتقال من رمزيّة المحسوس جرّةِ الفَخّار إلى الفائض البعيد مياهِ الأعماق لا يجعل المشهد الذي نتخيّله في الصّورة فاتنا بالمعنى الشعريّ وحده؛ إذ هو ما يوقع هذا الأخير في ملامسة الحقيقة العرفانيّة، المرتبطة بالإدراك الشّهوديّ لذات الحق المُقدّسة، وكشْفِ خفيّات عالم الوجود ببصيرة القلب، والعلم الحضوريّ؛ كما يقول الخفاجيّ، فالملموسات تفيض برمزيّتها في نصّ الشّحي بمؤشّرات التركيب اللفظيّة في الصّورة الفنيّة على معاني يتجلّى بها الشعور على ما يمكن أنْ يحقّق بعض تساؤلات العرفان، ونحن كما يرى جيلبير دوران نستطيع أنْ نماثل الحياة النفسيّة كلّها بما هو خياليّ منذ أنْ تتخلّص من الإحساس المباشر، ويكون الفكرُ بكلّيّتهِ مُدْمَجا بالوظيفَةِ الرّمزيّة؛ فكيف يمكن تخيّل مضاعفة هذا الاندماج بما هو مخصوص بملامسة الحقيقة في الخيال، إذ تؤول هذه الطاقة الرمزيّة ــ كما يناقشها عاطف جُودة في كتابه ( الرّمز الشعريّ عند الصّوفيّة ) ـــ إلى فرق جوهريّ يحيل إلى اختلاف أساسيّ بين نمطٍ حسّي خالص في وضع لا تجاوزيّ، ووضع حسّي ترنسندنتالي ( كالواحد والحقّ )؛ يتعالى بواسطة الكيف الحسّي الخياليّ إلى تركيب شهود عيانيّ لسريان الألوهيّة في الطبيعة.

   اليوم تبلور الأمر بكثير من إجابات التساؤلات عن العلاقة بين الرسّام والشاعر، وكأن الشّحي أراد ـــ كما يحلم الجبليُّ بعناية غيمة ــ أن يكمل لي ذلك السِّفْر الفنيّ الروحي؛ إذ اصطفتني الغبْطةُ بأنْ أقدّم بتواضع الحقيقة وليس بتواضع التّواضع مقاربةً لصورة الفنّان الشاعر في ديوانه ( مقامات لام وضمّة ميم )، الذي تأمل فيه " تأمّلاتِ شاكِر حسَن آل سَعيد ومُذكّراتهِ "، الذي لن أعرفه ــ مهما حاولت ــ كما عرفه الشاعر، وقد عيّن تلميذه  عمّار سلمان روابط الصلة بين الرؤى الفنيّة وتجربة الشاعر حين قال عنه : " لقد انشغل شاكر بمنطقَة مهمّةٍ ولكنْ مُلتَبسةٍ وصعْبَةٍ جدّا على المُتلقي العادي وهي (النّص الصّوفي ومكوّناته الفكريّة). ونقل عنه مقولته : " إن الأصالة لا تأتي أبدا من اقتباس التراث كتقنية أو أسلوب؛ بل تتأتّى من ... اكتشاف طبيعة الموقف عند الفنان في زمانه، ثم العمل على اتّخاذ موقف جديدٍ معاصر؛ يستطيع أنْ يحتفظ بروحيّة الطّرح التّراثيّ نفسهِ أنْ لم يعتمدْ على اقْتباسِ التّراث في شيء ".

   أعلم يقينا كما أزعم وأنا أقارب التجارب الشعريّة منذ حاولت كتابة الشعر أنّ شاعرنا في هذا الديوان العميق عكس هذه المقولات وهو يعيش بأنفاس فنّه الممتزج بروح صوفيّة عرفتُها به، وحتّى لا أحمّل انتظاركم توقّع العارف ببعض إبداعه؛ أعترف بأني سأمشي بظلّ ووهج الصورة معا في تتبّع هذا الانعكاس الذي يعترف به الشاعر قبل النصّ، وكل الرؤى التي شكّلتها جهود الفّنان وأثمرت بها صورة الشاعر الدكتور محمد الشّحي هي تحوّلات ثريّة في عمق إبداع شاكر حسن، والذي تميّز عن غيره من الفنّانين في استلهام الحرف صوفيّا ــ كما يرى شربل داغر ــ بأن وضع قواعد هذا الاستلهام ونظّر له، وبات أستاذها العربيّ الأوّل، ولأنّ الفن هنا وفي كل مكان هو صورة، فما نستلهمه من هذا العمل هو الصورة وحدها في تشكيل المقامات، وتعيين حركة الحرف، يضعنا على نوافذ يطلّ منها، فنجد الجمادات التي هي مادّة الرّسم؛ وسائل التّأمل والمقاربة، فتتجلّى بفنيّة التصوّر والاستعادة العلاقةُ بينها وبين الفنّان الشاعر، وسنجد في هذه التجربة أن معاني الفنّ تولد من أدواته التي تشكّل المعنى باستحضار رؤى الرّسام؛ فتتولّد المشاهد من الصّورة، ونشعر بصوفيّة الصّورة باعتبارها علاقات متعددة تربط بين الفنّ والملموسات لتجعل منها المعنى المختلف.

   لغة الحساسية الشعريّة الملامسة للمتلقي لا تعتمد على ما ينتظره من تعاكس الملفوظ؛ إذ يشعّ وجوده بالمفارقة نفسها، إن المعجم الشعريّ في تجربة الشحي يستمدّ انتظامه في التركيب من تقارب الأشياء في كونها تثير التفكير في الخصائص والتمازج، كما أن تواصل الملفوظات لا يتمّ بنقض العلاقات بين العلميّ والأدبيّ، وأعني هنا ما يثيره بارت حول وظيفة اللغة الأدبيّة في هسهسة اللغة، إذ تتخذ اللغة حياديّة التوظيف الفنّي، يُشتقُّ منها عدد كبيرٌ من الانزياحات والمحسّنات واللغات الخاصّة.

في نصّ تشبيه :

كَان ينقصُه الدّمع

فشبّه اللغة بالماء

وانتحب

   يضايف الشحي في مقطعه بين مستويات الدّوال، وحين تستعرض المعجم تصل إلى خصائص لم تتحقق في مضمون الصورة باعتبارها خلاصة أدوات الشاعر؛ بل لكونها منطقا للخصائص التي يمكن أنْ تتجاهلها القراءة الأولى، فلماذا لم يكن الدمع، ولمَ الانتقال من حالة نفسيّة إلى غيرها. إن ما يجعل خطاب الشعر الحديث ثورة المعنى الشعريّ؛ قدرته على ابتكار علاقات نفسيّة دون الحاجة إلى إظهار تشابك الخصائص أو ارتباط الملفوظات ببعضها، وهو إذ يستجيب ــ كما في المقطع السابق ــ إلى القيمة التي تعبّر عنها الصورة الفنيّة بتعدد أوجه تشكّلها في التفسير، ويقبل هذا التشكيل اعتباطيّة الصورة في خطأ الأسلوب كما يراه كوهن في مهما إضافة إلى خرْقِ القواعد لكتابة القصيدة.

   في مقطع ( أ ) من ( مخطوطة أحجار الريح ) نجد الشّحي ينحت الصورة بجانب اعتباطيّ مقلق؛ فالعلاقات بين مستويات طبيعة المحسوسات يتّصل بمعنى روحي يتشجّر في تلقي الصورة بين وطأة الدلالة والاكتفاء بربط العلاقات في المتناول :

بعدَ عِدّة محاولات

اسْتطعْتُ أنْ أربطَ

في إصْبعِ التّمثالِ الحَجَريّ

خيطَ الطّائرَة الورقيّة

ليسْتردَّ طفولَتَه            

   يعتمد المشهد الشعري في النص الحديث على فاعليّة الكلمة باعتبارها بؤرة دلاليّة وفنيّة، فالكلمة ليست جامدة التّأثير في التشكيل الفني، وعلى الرغم من أنها لا تعمل خارج العلاقات اللفظيّة؛ لكنها توحي في حركتها وتوازيها بالمعنى، وتسهم القراءة في بناء العلاقات الدلاليّة. فالطفولة معنى الحياة التي افتقدتها الروح الغارقة في الجمود؛ والذوات تقف ــ كما يمكن أنْ نقرأ مقطع الشّحي ـــ بتوازٍ مع الرغبة في استعادة الفائت، والصّورة تتحرّك في مشهد التّحول مرارا، فالرموز في المقطع الشعريّ تؤكد فعل التّصوّر الناتج من التشكيل البصريّ؛ الذي يرى الصفراني أنه يحيل إلى النظريّة الجشطالتية في إدراك الأشكال على اعتبار أن التشكيل هو في ظاهره شكلٌ بالمعنى الحسّي يتطلّب إدراكا شعوريّا وحسّيا.

   اقرأ هذا المعنى في فهم العلاقات بين الرمز الحاضر ( الغريب ) والمدلول المتّسع البعيد، حيث تجد الرؤية المختلفة، وانعكاس الاعتراف والوضوح وبساطة العمق في نصّه ( قنديل الرؤيا ) :

كلُّ هَذا الاصْطخَاب

وهذه الّلجج

وليسَ في يدكَ ورْدَةٌ

أو أغنيةٌ ؟

بينَ خَرائبِ العَالم

والعَدم المُنتَحِب

   إن حركة النص الحديث منحت التّجلي الرّوحي في النص دلالة التساؤل المضني المتولّد من الإصرار على الذات، وباعتبار الأدوات اللفظيّة فيه ترتبط بثقافة الدلالات المؤثّرة في الخطاب؛ فما تنتظره القراءة متعدد الجهات في الوصول إلى المعنى؛ على خلاف ظاهره، فالخراب الذي يحرق الأرواح كان سببه أكثر من غياب وردة أو أغنية؛ لكنهما أيقونتان للجمال والسلام، ثم يتحوّل توجيه خطاب المقطع إلى تشكيل آخر؛ يربك القراءة الأولى؛ إذ ظاهريّا قبل اكتمال إدراك المدلولات بالمعنى المعرفيّ ينبني الخطاب على تركيب آخر يعزّزه في جانب آخر .

 

 عليكَ أنْ تعرف

الفرقَ بينَ القصيدةِ واللوحة

 

   الصورة الحديثة كما يرى الجمَّال اتّخذت تصوّرات جديدة؛ فتعددت تمثّلات العلامة الأيقونيّة، وهي بطابعها السيمائيّ ذات دلالات تتابع وتتقاطع بصورة منظّمة لإنتاج المعنى، وشاعريّة الشّحي في تجربته تقوم على وعي فنيّ بالروابط المعنويّة، وفي انتقالاته يترك للتلقي ما يشكّل فراغ الصورة الممتلئ، ف(الوردة والأغنية) هي رمز المعرفة الروحيّة لإدراك الفرق بين أثر القصيدة واللوحة، ونصل إلى التّصور والتصوير، فالقصيدة اعتراف بما لا يمكن إدراكه بالمحسوس، والصورة تصوّر المشاهد ليكون محسوسا بالألوان والمكان، ولإيجاد الملامسة يجب البحث عن السّر في الملموس المُدرك بالجوارح الظّاهرة، لكنك لن تجده في كل ما يشبه الصيرورة، إنه عين الرّائي في اكتناه حقيقة الأشياء في ملامستها للذات.

      تأتي مادّة تشكيل الصورة في تجربة الشّحي أدوات رسم فنيّة في ظروف إبداع الصّورة نفسها، وأظنّ أن ما ينظر إليه شاعرنا هي الأشياء التي على الرغم من ملامستها لروحه تعكس أثر موضوعات الوجود، هذا الاختلاف عن الآخر في توظيف الأدوات يعود إلى  ــ كما أزعم أنني أعرف الشحيّ وأكّد هو على ذلك بنفسه ــ إيمانه بتقاطع الإبداع؛ بل بامتزاجه، وهو ليس بالأمر العجيب حتى لو اعتمدنا كثيرا على خصوصيّة التجربة، ولهذا تتبنّى كلود عبيد مقولة نقّاد عصر النهضة التي تعود إلى القدماء من جهات مختلفة بأنّه كما يكون الشعر يكون الرسم.

يقول مثلا في نصّه ( شموع النّذْر ) في ضوء استحضار لوحة شاكر حسَن بالعنوان ذاته :

مسْبحَةٌ من دموعِ الأمهاتِ على الضّفافِ

تنتظرُ قبولَ نذْرِها، النّذورُ ظلالٌ غامِضٌ في الرّوح

لذا تبْزغُ البِشاراتُ أحْيانا من لٌعْبةِ الظّلِّ والضّوءِ والجِدارِ

لكأنَّ يداً بينَ اللهبِ وبينَ جُدرانِ الروحِ

سوفَ تبْزغُ من الماء البَعيدِ

لتشكّلَ من أصابِعِها وفَاءاتٍ للنّذور

ويقول في نصّ ( الحكمة البيضاء ) :

لمْ تعُدْ المُخيّلةُ

مصْفَاةَ العَدمِ

كمَا كانتِ الفَلسَفَةُ

تَعِدُ بذلك

إلى أنْ يقول :

تمرُّ بها شياهُ الفقرَاءِ فَتخْضرّ

ويمرُّ فوقَها نِسْرٌ جَريحٌ

فَتصْبِحُ داكِنَةً بلونِ

قلبِ الرّصَاصِ النّادم

      كيف نقول عن الشّحيّ ــ كما هو شأن الشعراء ــ إنه يرسم بالكلمات كما يناقش رائد جرادات رأي سيسيل؛ في أن ما ينطبق على الكلمات يسري على الصور، لكنه يطرحُ فكرة الخلق الفني بعيدا عن التقاطع بين الفنّين الذي رأينه في مقطعيّ الشحيّ، فسيسل يصل إلى أنّ الصور ولو إنها غير مذهلة لأوّل وهْلة إلا أنها يجب أنْ تتركَ لدى القارئ انطباعا بأنها اللغة الطبيعيّة للموضوع، فأين يمكن أن نفهم طبيعة اللغة التي تشكّل صورة الشحيّ الشعريّة؛ وهو يقيم علاقات بين المحسوسات يمكن تفسيرها بعيدا عن توازيها في الواقع، إن الرمزيّة تخلّص ملفوظات التركيب الشعريّ من البحث عن علاقات تقليديّة بين الدّوال؛ إذ تعمل مؤشّراتٍ فنيّة تمنح التفسير بُعدا آخر. كقوله :

الغُبارُ على هذهِ

اللوحَةِ القديمَةِ

ليسَ أصيلاً فيها

بعدها تتأزّم الصّورة بإيحاءات تشكّل مفارقات للاحتمالات التي تخيّب ظنّ التوقع؛ فتكسره برؤى بعيدة :

فلتطْمنّ خيولُها

التي بلا رؤوس

تركُضُ في الليل

بينَ الأزقّة

وتخْشَى ترْكَ آثَارها

 

   إنها لوحة الشّحيّ، يقف أمامها القارئ مرسومةً بمادته الفنيّة، وحين يبدأ تجميع أجزاءها تنفلت منه إلى جهات الوعي بلامنطقيّة الشعر، وبعيدا عن اللون تبقى اللوحة ثائرة في استعادة أجزاءها لأنها مشهدٌ يرتبط بقدرة الشاعر على نقل ضرورة الاضطراب؛ وهو يستجيب إلى نوازع الأشياء ممعنا التّأمل في جهاته المتعددة، فالخيول لا تتأثّر بما عليه طبيعة اللغة؛ لأنها جامحة لا ترى عائقا، ومع ذلك فالشعور يسيّرها حذرة من ترك آثارها.

   ولا يمكن أن لا تشعر باللون في لوحة الشّحي، فهو يأتي بطبيعته أو بشكل من أشكال تمثّله أو بدلالته المجازيّة، وهذا الحضور لا يستقي توظيفه من إشعار بمحسوس المادة؛ بل هو قيمة في نفسه لتعيين مادة الرّوح التي توازي تحوّلات العلاقة بالمعنى الفائض من ملامسة أدوات تشكيل صورة المتجلّي على سطحيّة المُدركِ عموما.

   في نصّ ( غيبٌ محضٌ يحتلُّ المملَكة ) مثلا يشكّل الشحي صورته الشعريّة من الشعور بملمس اللون الحسيّ، فهي تحمل فكرة يراها في التّجلي متوازية بتوتّر تجانس الألوان، وتمثّل الفكرة تطوّر المعنى الذي يعيّنه النص قلَقا في ترادف الأدوات والألوان.

سَوفَ أعيدُ الفكرَةَ

إلى قواريرِ الألوان والأحبار

   وكأن شاعرنا يعيد تمثّل الأشياء لتوليد دهشته بها، لغته منطِق الصّورة المتخيّلَة، وما تقدّمه الإعادة يراها هو معنى آخر يُفهم بامتزاج المحسوس لونيّا باللامحسوس معرفيّا. فيعدّد الألوان؛ الأحمر، والأخضر، والأبيض والأسود.

لتذهبَ كلُّ الألوانِ إلى قاروراتِها

سأعيدُ تباينها إلى أسْجاعِ الكُهّان

ومخْلاة العارفِ

   إذا كان لكلّ لون موجَةٌ معينة ذاتُ تأثيرٌ على خلايا الإنسان وجهازه العصبيّ وحالته النفسيّة ـــ كما تقول كلود عبيد في دراستها ( الألوان ) ـــ؛ فإن الموقف منها انجذابا أو نفورا يعود إلى أسباب نفسيّة، اجتماعيّة، رمزيّة، ذوقيّة، ودينيّة، غير أنّنا ونحن نقرأ اللون في علاقاته بالأشياء وطبيعته في تجربة الشّحي؛ نصل إلى طبيعة أخرى وسبب يبدو أقرب تجلٍّ بطبيعة الوجود في الألوان، وهي في النص السابق ذات تباين شكليّ ومعرفيّ مرتبط بمعنى روحيّ يحقق به الشاعر موقفه، وعودة الألوان إلى بداياتها إشارة إلى توليدها ألوانا أخرى تعبّر عن فطرة الذات في تغيّراتها النفسيّة. إنه على غير طبيعة الألوان التي تشدّ العين ذوقا أو تعبيرا، إنه المعنى والفكرة.

   في نصّه ( حمْرة الفائض ) يقول الشّحيّ :

كانَ يمكنُ لي أنْ أمشي

بدونِ أنْ ألتفتَ للمزاريب

لكنْ مَنْ يضمنُ لي

أنّ الوادي لن يأتي من قِبَلِها

سوفَ أمشي صُعودا في اللون إذا

وأحْتمي بِفِخَاخِه المَنْصوبَة

   للون وزن يحتلّ مكان الانتقال والتحوّل، لكنه يحمل أكثر من خاصيّة الشكل هنا، فهو تعينيّ بأكثر من معنى، والغالب على معناه هو أنه جوهر يعكس الطبيعة ويمتلك المدى والحيّز، ويكفي أنْ يربك القياس عليه ماهيّته في المقطع السابق، إننا أمام مرحلة متقدمة من هذا التعيين، فتبادل الخصائص التي يوظّفها الشعر الحديث تتحقق بسماع المشموم ورؤية المسموع؛ بينما هذا التعيين اللوني في مشهد يرسمه الشّحي في لوحته يرينا حسيّة التجلي التي تعيدنا إلى شعوريّته في نفس الوقت بتعيين كتلة مبهمة.

   إضافة إلى لامنطقيّة اللون نجد في تجربة الشّحي مغامرة فنيّة يشكّل بها صورته الشعريّة، إن النماذج التي يؤكد بها شكل المتخيّل تؤكد على مزج العالمين اللذين يستقي منهما أدواته الفنيّة في بناء تركيب خطابه، ففلسفة الصورة الحديثة تقوم على جعل الأفكار غير الواقعيّة واقعيّة ــ كما يرى عزّالدين إسماعيل ــ بمعانقته للأشياء والبروز من خلالها، وتبقى الفكرة بلا واقعيّة، ويكفي أنْ تجد في رؤى الشاعر طريقا إلى الارتباط بنموذجها الملموس.

   يقول  :

في الفحْم مُتَّسَعٌ أكثرُ للرؤية

فالنّارُ التي أنْجَبتهُ بنت الشّجرَة

تسْتطيع النّظر

تحْتَ الماء

   ما يراه الفنّان عبر نتاج الفَحم الفنّي يعود إلى مستوى إبداعه، والعلاقة بين الفنان والفحم في الواقع هي علاقة استهلاك، روحيّا يضحّي الأخير بأنفاسه ليرى الفنّان العالم ويري غيره بشكل مختلف، لكن الشاعر يربط الفكرة بطبيعة الأصل الذي يعود إليه الفحم، وهذه الرؤية تنشأ من علاقته بالمفردات، فهي تحمل المعاني المتولّدة من حساسيته تجاه الوجود، ولأنّ الطبيعة روح متعددة الحيوات في مفرداتها؛ فالفنّان يوظّف طبيعة الشيء الحسيّ فيها بدلالته التي تتحقق برؤيته.

   ونجد مثل ذلك بشكل مختلف في قوله :

لا تودُّ العصافيرُ

أنْ تعرفَ صِغارُها

شيئا عن الكهرباء

ورؤية الرّسوم المتحرّكة

لذلكَ شجرَةُ العيدِ

تحملُ عشَراتِ المصَابيح

ولا

تحملُ عشّا واحدا

  

   إن الصّورة الشعريّة في تجربة الشاعر الدكتور محمد الشّحي تتحققّ بأدواته الفنيّة النابعة من خلاصة رؤيته المختلفة لشموليّة الفن، وقراءته الروحيّة للمحسوسات التي يرسم بها صورته لغةً تنسج الانعكاس الكبير لتجربة الفنان شاكر حسن آل سعيد، وقد تشبّعت بكثير من رؤاه في قراءة وتقديم الأثر الصّوفيّ؛ باعتباره نجاة الذوات في عالم شوّهه غياب الحقيقة.

   ما قدّمته الورقة محاولة لتعيين أبرز تمثّلات هذه الصورة الشعريّة روحيّا؛ من خلال توظيف الأدوات وتوازي الأشياء وطبيعة اللون، وإلا فالتجربة تستعصي على أدوات القراءة الفنيّة.

 

 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبدالعزيز الفارسي قارئًا

تسريد العتبات النصيّة في قصص عبد العزيز الفارسي القصيرة