السرد السير ذاتي في قصص عبدالعزيز الفارسي القصيرة

 

 

د. علي المانعي

بيت الزبير- 8 مايو2024

  




   ينفتح الخطاب الأدبي المعاصر على عوالم عدة أدبية وغير أدبية، فيحاورها ويتفاعل مها، ويكسر بها الحدود الجغرافية بين الأجناس والمعارف والفنون، وبها يقل تأطير العمل الأدبي وصفة الثبات التي يتشدد فيها بعض النقاد والأدباء، وهذا هو الأداء الذي مالت له كثير من الأعمال الأدبية، واستخدمه النقاد في التشجيع لاستخدام التقنيات الأدبية التي تذيب الفوارق البنائية بين الأعمال الأدبية وتؤدي لتداخل الأصوات والتعالق النصي خصوصا فيما ارتبط بالسيرة الذاتية للمؤلف وبروزها -ولو خفاء- في الأعمال الأدبية.

   وكان لبروز مصطلح التداخل الأجناسي وتداخل الأعمال الأدبية الذي كتب فيه كثير من النقاد أثر في دراسة آليات وملامح التداخل بين الأعمال الأدبية مثل السيرة الذاتية والقصة القصيرة التي نحن في صدد الحديث عنها في كتابات عبدالعزيز الفارسي القصصية.  ولعل التداخل بين جنس القصة القصيرة والسيرة الذاتية يمثل إشكالية في كمّ الخيال الذي يحمله كل منها، إذ تحمل القصة القصيرة كمّا من الخيال بينما تتسم السيرة الذاتية بالصدق والصراحة والواقعية في الأمور.

إن الرأي الكلاسيكي الذي تبناه كثير من النقاد ودراسي الأدب هو الفصل بين الأعمال الأدبية ودراستها باستقلالية بعيدا عن الربط بين الأساليب والتقنيات التي تربط بعضها بالآخر، والذي ظل طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان فيهما التعدي على الحدود المؤطرة للأعمال الأدبية خروجا على عرف الكتابة الأدبية والنقدية، بيد أن هذه النظرة تغيرت مع بداية القرن التاسع عشر حتى منتصفه عند ظهور النظرة الرومانسية، التي تجنبت فكرة التفريق بين جنس أدبي وآخر، ومالت إلى تمازج الفنون الأدبية وتداخلها، واعتبرت أن أي توجيه للتجنيس الأدبي تقييد لحركة المبدع، وحدٌّ من قدرة الأدب على التطور "وقد أنكر بعض الفلاسفة الرومانسيين ونقاد الأدب فكرة التجنيس، إذ نجد فيكتور هوجو والأخوين شليجل رفضوا فكرة نقاء النوع الأدبي... فشليجل يرى أن تقسيم الأدب إلى أجناس نوع من التحكم، لا يمكن قط أن يخضع له التأليف الأدبي" (خميس و عباس، 2019، صفحة 10).

"إن القول بالتداخل بين الأجناس الأدبية هو الصورة المكملة لنقص الأنواع والتصنيفات لكننا نلمس عند النقاد العرب تمايز الأنواع والأجناس وفروعها أحيانا ليبدو بيان مراتبها من بعضها البعض، على أن القناعة الراسخة تظل في نظرنا متمسكة بميوعة الحدود بين الأجناس، ودخول بعضها في بعض وقدرة الكاتب المبدع من خلالها التصرف في اللغة والأساليب والخروج بها من حال إلى حال وتغير منزلتها" (عروس، د.ت، صفحة 173)

"والمقصود بتمازج الأجناس هو صدور الأجناس الأدبية على اختلاف أنماطها وأنواعها وأشكالها من أصل واحد أو سلالة واحدة بحيث نستدل في الجنس على مظاهر وأمارات دالة على الجنس الآخر، أو دالة على الأجناس والعرق الذي ينظم جملة من الأجناس" (عروس، د.ت، صفحة 147)

"لقد خاضت الدراسات الحديثة في قضية الأجناس وانفتاح النصوص على بعضها البعض، واستعملت في ذلك عديدا من المصطلحات والأسماء مثل: الانتشار، والحوارية، والتعالي النصي، والتفاعل النصي، والتداخل النصي، والتناص" (خميس و عباس، 2019، صفحة 14)، وبقي للسرد الحظ الأوفر من التماهي مع العوالم الأدبية الأخرى، ذلك أن السرد "فعل يقوم به الراوي الذي ينتج القصة وهو فعل حقيقي أو خيالي ثمرته الخطاب، ويشمل السرد على سبيل التوسع مجملا الظروف المكانية والزمانية، الواقعية والخيالية التي تحيط به، فالسرد عملية إنتاج يمثل فيها الراوي دور المنتج، والمروي له دور المستهلك، والخطاب دور السلطة المنتجة" (زيتوني، 2002، صفحة 105)

تتداخل تقنيات الكتابة النثرية في قصص عبدالعزيز الفارسي القصيرة في تناغم جميل، احتضنت عالم السيرة الذاتية وتماهت مع الخطاب الحقيقي في نوع من التعايش الأجناسي في العمل الأدبي الواحد. وقد برز السرد السير ذاتي في قصص عبدالعزيز الفارسي في عدد من المواضع التي آثرت فيها استخدام مصطلح إيحاءات وقرائن لكونهما يحملان كمَّ التخييل والسرد السيرذاتي الذي نستطيع أن نتلمسه في مجموعاته القصصية، ويمكن أن نجمل هذه الإيحاءات في الآتي:

 

1-    ضمير المتكلم

ويوحي بالحكي السير ذاتي وهو من الطرق الكلاسيكية التي استخدمها كتّاب السيرة الذاتية، ويشي بمفهوم الزمن ما بين لحظتي الحدث والكتابة، يسعى من خلاله الكاتب إلى استرجاع الذكريات، وإثبات الخصوصية المطلقة لأنا الكاتب سواء كان الحدث خيالا أو واقعا يسترجع فيه أحداثا مرتبطة بالشخصية المحورية في القصة.

إن معظم الأعمال الأدبية السردية لها ملامح سيرية لأصحابها باعتراف وشهادة المؤلفين، الذين يصرحون بواقعية شخصياتهم وأماكن الحكي، وأن تجاربهم الشخصية الواقعية انعكست على كتاباتهم فولدت كتاباتهم مطابقة لسيرهم أو تحمل كثيرا من الإشارات للسيرة الذاتية للمؤلف، ولعل في الملحوظة التي أشار لها عبدالعزيز في قصة "للعلم: الحكاية تنقصها التفاصيل" شيء من البوح بالسرد السير ذاتي الذي يظهر في قصص عبدالعزيز، يقول:

 " ملحوظة:

 روت جدتي هذه الحكاية -ومثلتها بحركات يديها- حين كنت في العاشرة. كنت على فراش نومي، وأتدثر خوفا. كبرتُ وظلت الحكاية "صغيرة" كما هي، لأن جدتي ماتت بعد شهر من تلك الليلة. لم يتسنّ لي معرفة المزيد من تفاصيل غير ما نقلته لكم، هذا للعلم فقط" (الفارسي ، 2023، صفحة 364).

استخدم الكاتب ضمير المتكلم كثيرا في قصصه بطريقة تشير للراوي المشارك في الأحداث، وهي الطريقة التي يعتمدها -بكل جرأة- كتّاب السيرة الذاتية، بيد أنها في كتابات عبدالعزيز تشير أحيانا لتذويت السرد خصوصا فيما ارتبط بوظيفته أو ذكريات الطفولة التي لا يعلم تفاصيلها الدقيقة إلا من عايشها كقوله مثلا:

"مذ دخلت قسم الأورام وأنا أحاول معرفة شخصيات زملائي مستخدمًا طريقة رحمة. أنكّس رأسي طيلة اليوم ولا أرفعه. بلغ بي الحد في أحد الأيام أن أقول لحذاء الاستشارية اللامع الذي أعجبني: «صباح الخير»، فرأيتها تضرب البلاط بقوة. رفعت رأسي فرأيتها تحدجني بنظرة شك أو خجل. أردت أن أوضح لها بقولي: عفوًا. لم أقصد ساقيك. أنت تشبهين جدتي زوينة في كل شيء. ينقصك البرقع فقط وتصبحين الحاجة باربارا». بيد أني تراجعت وقلت لنفسي: «نحن في قسم الأورام!». وهروبا من نظرتها تناولت الختم وطبعته على ساعدي مؤكدا لها رسميتي أنا أيضًا. ثم ابتسمت ببراءة. كان زميلي قد فرغ من قراءة الملف، فقالت الاستشارية كما تقول ذلك في اليوم عشرين مرة: «سأدخل لألقي على الوالدين التحية، وأقول لهم: هلو». دخلت وتبعها الجميع فيما بقيت خارجا أتظاهر بقراءة البيانات كما أفعل ذلك في اليوم العشرين مرة إياها" (الفارسي ، 2023، صفحة 344)،

أوجد السرد السير ذاتي في المقطع السابق التطابق الذي فرضه لوجون بين الكاتب والسارد والشخصية في كتابة السيرة الذاتية، و" لكي تكون هناك سيرة ذاتية (وأدب شخصي بصورة عامة) يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية" (لوجون، 1994، صفحة 24).

 

2-    المكان القصصي

"يذهب المبدع المكاني في استدعاء روح المكان -تاريخيا وجغرافيا وحساسية- واستدعاء الإنسان فيه لكتابة سيرته بأسلوبية تصويرية جمالية تتدخل في طبقات المكان عموديا وفي لوحاته أفقيا، في محاولة للكشف عن سر المكان بوصفه مفتاحا من مفاتيح التجربة الإبداعية في محتواها الإنساني" (عبيد، 2005، صفحة 154)

اشتغل عبدالعزيز الفارسي على المكان كثيرا، وكان لولايته "شناص" النصيب الأوفر من هذا الاشتغال، ولعلها كانت المحور الارتكازي الذي ارتضاه لأحداث قصصه، فمنها يخرج الحدث القصصي، وقد يخرج -بعيدا وقريبا- لكنه لا يبرح أن يعود إليها، بحَارَاتِها وسوقها وطرقاتها وكل تفاصيلها، وستظل قصص عبدالعزيز خير من دوّنها -أعني شناص- بكثير من تفاصيلها في مجموعات قصصية تظل تحتفظ بهذا الاسم، إذ جعلها تصديرا لمجموعته "العابرون على شظاياهم" يقول:

"تقع شناص على الحدود بين سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتطل على خليج عمان وبحر من الأحلام، سليلة الأمنيات المسافرة. لم يشأ التاريخ لشناص أن تكون هنا، فقد اختار لها مكانا بين الجرح والفرح؛ يظللها غمام الحب والرغبات. ولكن ما حدث في الأيام الأولى من الزمان غيّر المسار كثيرا...

روى لنا الثقات أن سيدنا التاريخ في بداية الحياة، كان يطير حاملا كل المدن والقرى في صرة كبيرة على ظهره، ليعبر الأرض سهولا وقفارا وجبالا وبحارا... وكلما مرّ على مكان أعجبه، ابتسم ثم هبط ليفتح الصرّة فأنزل مدينة أو قرية هناك، فصارت المدن والقرى كما هي عليه اليوم.

وحُكي أن شناص سقطت سهوا من صرّة التاريخ، وهوت على هذه الأرض، فأوجعت وتوجّعت..

وحيث أنه لا يلتفت إلى الوراء، ولا يصحح ما ارتكب من أخطاء، فإن سيدنا التاريخ تناسى شناص، وتناسته هي أيضا..." (الفارسي ، 2023، صفحة 154)

مثلت شناص لعبدالعزيز الحب والوجع، مثَّلها من خلال سرده بأدق التفاصيل، احتفى بكثير من أماكنها، وكانت وعاء لأحداث قصصه، يتوجع مع شخصياته في مركز شناص الصحي، وعيادة الحصّار وعيادة المحفل، ويراقب السوق والعابرون من خلال مطعم ألطاف ومطعم بابوه. وفي قراها تنقلت شخصياته بين الهاملية والغوابي وحارة السوق، وحارة القلعة والبلدية، والميناء، ولها كثير من توقيعات قصصه.

تماهي شخصيات القصص في المكان (أعني شناص هنا) زاد من عنصر التشويق وحبكة القصة، فهو يحكي بالراوي العليم أحيانا، وبالراوي المشارك أحيانا أخرى، ويسجل حركة الشخصيات من خلال الوصف الذي يحدث سلاسة الانتقال. يقول:

"خطر له أن يجرب نفس الفكرة مع رجال آخرين، فانسحب وعبر الشارع القديم من دوار الحصن، متجها إلى مطعم بابوه، ودس نفسه في الجلسة الصغيرة أمام المطعم، والتي كان يحضرها سائقو سيارات البيك أب أثناء انتظارهم لأي زبون يود الذهاب إلى الدوار الكبير" (الفارسي ، 2023، صفحة 472)

اشتغل عبدالعزيز على الأمكنة القريبة من شناص، سواء المدن أو القرى، وعرّفها من خلال شناص، فخرجت شخصياته إلى دبي والفجيرة وحتّا، وتنقلت بين ولايات عمان صحار ولوى والخابورة والبريمي، ومسندم وغيرها، وكان لتفاصيلها الدقيقة اشتغال أغرى بتتبع المكان والزمن، ففي قصصه يتنقل بين قرى صحار الغشبة والفلج ومجيس ووادي الجزي، ولوى وشناص بحركة تسلسلية يتسارع بها الحكي، ويحدث ارتباطا واقعيا بهذا الأمكنة، ويقف عند تفاصيلها

"جبال وادي الجزي أبيّة. تحتضن بعضها بعضا في شموخ، وتجبر البشر على الدخول في منعطفات حادة إن أرادوا المرور. تأبى كسر عناقها" (الفارسي ، 2023، صفحة 100)

"لن أقرّ عينا حتى أجد "سلطان" أو أهلك من دونه في طريق وادي الجزي. أقود سيارتي عبر المنعطفات الحادّة من صحار إلى البريمي. أسأل الصخور والجبال والنخيل عنه وعن وجهه وكلماته المنحوتة داخلي." (الفارسي ، 2023، صفحة 99)

وهذه الأماكن تمثل مرجعيات واقعية للكاتب وفيها ينفتح على المجال التخييلي الذي يستأنس فيه بالمكان.

 

3-    مهنة الطب التي عشقها:

وفيها تقاطع بين البطل في القصة والقاص، وبها ارتباطٌ سير ذاتي حكى تفاصيله من خلال أحداث القصص والشخصيات التي مثلت المرضى الذين ارتبطت بهم شخصية القصة كثيرا، فالسيرة حياة الإنسان كما يراها توماس كارليل. أراد عبدالعزيز إعطاء تفاصيل عامة ودقيقة عن مهنة الطب التي عشقها، وأّلِف تفاصيل مرضاه، وبنى بها علاقة خففت أوجاع المرضى المصابين بمرض السرطان خصوصا في فترات جرعات الكيماوي

"كان بإمكانه أن يظل مريضا عاديا بالنسبة لي. "رجل في الأربعين من عمره أصيب بسرطان الدم ودخل المستشفى ليأخذ العلاج الكيماوي". هكذا كنت سأتحدث لو لم أدخل عليه أول مرة لأفحصه، وتلاقت أعيننا فسألني دون مقدمات:

"أنت تحب فيروز. أليس كذلك؟". سألته:

-         كيف عرفت؟

لعشاق فيروز عيون تكشفهم.

-         فضحتني عيناي إذن. ما أغنيتك المفضلة؟

-         "أنا عندي حنين"" (الفارسي ، 2023، صفحة 298)

أعطى عبدالعزيز كثيرا من السرد السيرذاتي من خلال وظيفته كطبيب، وأبرز جوانب كثيرة من العلاقة التي يقيمها الطبيب المحبّ لوظيفته، شارك كثيرا من تفاصيل حياته الخاصة مرضاه، يقول في حواره لمريضه خالد في قصة "أخائف من الموت يا أبا هاجر؟"

"كان يحب الأطفال كثيرا. يشتهي لو أنه طفل صغير يتمرغ في التراب، ويمشي حافي القدمين دون مساءلة. سألني عن أطفالي فأخبرته، وطلب صورة سعود ليحتفظ بها قرب صورة التوأم. أسر بأنه يحنّ لطفلة جميلة يسميها «حنين»، ومازحني: "سأزوجها لسعود». عاش معي انتظار ميلاد هاجر وطلب مني تصويرها له. وبعد نصف ساعة من ميلادها انطلقتُ عائدًا من مستشفى صحار إلى مسقط لأريه الصور الأولى المأخوذة بواسطة جهاز الهاتف. فرح كثيرا بهذا الجنون وأوصاني بجنون آخر: «عد الآن إليها»، فعدت وعدته بصورة مطبوعة لهاجر حين يعود شعرها للظهور بعد سطوة الموسى الذي استخدمته أمها حين أتمت الطفلة أسبوعها. ورحل خالد قبل نمو شعرك يا هاجر! قال: «أشتهي الخروج من العزل الرؤية طفليك». (الفارسي ، 2023، صفحة 305)

لعل قصة " أخائف من الموت يا أبا هاجر" مثلت أنموذجا واضحا للسرد السير ذاتي في كتابات عبدالعزيز الفارسي القصصية من خلال إشاراتها الحقيقية لوظيفته، وتخصصه الدقيق وطرائقه في التعامل مع المرضى والبروتوكلات المتبعة للعلاج، واللوائح الطبية المتبعة في السلطنة، والإشارة للعلاقات الأسرية والاجتماعية. وقد احتفت قصص أخرى بوظيفة الكاتب كقصص "حتى إشعار آخر"، و"جروح منفضة السجائر" و"ملامح" و "في منطقة حظر التجوال" و "سيماهم في أحذيتهم" وغيرهن، وهي القصص التي تحمل المعنى الحقيقي للسيرة الذاتية التي عرفها بها الناقد الفرنسي فيليب لوجون بأنها "قصة ارتجاعية نثرية يروي خلالها شخص واقعي (قصة) وجوده الخاص وذلك عندما يؤكد على حياته الفردية وخاصة على تاريخ شخصيته«.

 

4-    شخصيات القصص:

"عنصر مهم في البناء الفني وعماد النص السير ذاتي وضرورة يقتضي تحليلها والتركيز عليها في إثبات تحقق التطابق" (الخزاعي، 2017، صفحة 181) و" السيرة هي نوع من القصة، يجمع النص إلى التاريخ، يتحدث فيه المؤلف عن أهم أحداث حياة شخصية إنسانية" (مردين، د.ت، صفحة 10)

وقد صنع عبدالعزيز علاقة الراوي بشخصيات قصصه بالطريقة الحوارية المتبعة في المجتمع، والتي توحي بملامح السرد السير ذاتي، ذلك أن شخصيات عبدالعزيز محبوكة بطريقة الاسم واللقب، وهي الطريقة التي توهم بواقعية هذه القصص، ففيها إشارة إلى أسماء الشهرة أو اللقب، أو الكنية. فسمى "المرأة الشناصية" (الفارسي ، 2023، صفحة 218) بشيخوه (الفارسي ، 2023، صفحة 489)، وسندية الحليان (الفارسي ، 2023، صفحة 219)، ورشيدة بنت سندية (الفارسي ، 2023، صفحة 219)، وعويش (الفارسي ، 2023، صفحة 233)، وريموه (الفارسي ، 2023، صفحة 234)، وسبيتوه (الفارسي ، 2023، صفحة 236)، ومريوم زوجة الغبيري (الفارسي ، 2023، صفحة 501)، وخولة بنت المظلوم (الفارسي ، 2023، صفحة 501) وغيرهن.

وسمى شخصياته من الرجال خمّاس المحشّ، وراشد بن المرحومة صبيحة، وربيع المّر، وخميس بن باروت، وصمبوخ، وحمدان الشبر، وخميس بن برّوك، وسعيد بن صلبوخ، والمطوع علي بن ناصر، وسلّوم الظبي، وسليّم البعم، وخليفوه ولد مراد، وخميس بن سرحان، وخليل البسيسي، وغيرهم.

يقول في قصة "لماذا قررت الآتي":

 "حكى لي خميس بن برّوك - والصبح يغسل سوق شناص بماء من ذهب - قال:

زارني حمدان الشبر قبل أسبوع وأحضر عشر سمكات سردين قائلا: «قطع لي أسماك الكنعد هذه لو سمحت. حدقت فيه باستغراب السردين أصبح كنعد في شناص؟ ومن ثم لم أسمع أحدا في حياتي يدفع مالا لتقطيع السردين وطول الواحدة لا يتعدى طول الإصبع. قلت في نفسي: «هذا والله من أولاد الشبر. فالجنون عندهم أشكال وأنواع». قطعت الأسماك وسألته إن كان حفيد صالح الشبر، فأومأ بالإيجاب". (الفارسي ، 2023، صفحة 200)

 

5-    اللغة المحكية

في إشارة للغة المحلية والمحكية في القصص يبرز تأثّر الكاتب بلغة المجتمع والبناء المعرفي له، فقد استفاد من اندماجه بشرائح المجتمع في نقل صورة حية للفكر اللغوي الذي يتحدثون به، بعيدا عن اللغة العربية التي استخدمها في معظم حكيه، إذ نقل لنا بعض الأمثال التي يحتفي بها أهالي ولايته من مثل قولهم "يوم لك وعشرة عليك" و"الخبزة الأولى دائم محروقة" و"يوم الخصب ما بغت ترعى، ويوم المحل طاب مرعاها" و "هذا اللي عند الحشمير مخلّف، ما مولّف" ، وغيرها من التراكيب التي نقلها بالطبيعة اللغوية المكونة للمجتمع الشناصي -كما يحلو للكاتب تسميته-.

 

6-    السياق الثقافي السير ذاتي:

قدم عبدالعزيز الفارسي في مجموعاته القصصية مجموعة متنوعة من ألوان الثقافة وأشكالها، كشغفه بالكتابة السردية، والمطالعة واللقاءات الثقافية وحب الغناء والشعر وغيرها. وقد بثّ ذلك كثيرا في قصصه بطريقة يشعر فيها القارئ أنه أمام شخصية تبعث كثيرا من الرسائل الثقافية سواء في موضوعاتها او أعلامها.

يشير إلى أعلام الثقافة العربية والأجنبية كمحمود درويش وطاغور والمتنبي وعبدالرحمن منيف وجبرا والسياب ونجيب محفوظ وأمين معلوف، وغيرهم. ويدخل أحيانا في حوارات ثقافية سردية مع شخصيات واقعية كقصة "لا غربة إلا غربة الأنثى" التي احتفى فيها بصديقه الكاتب عبدالرزاق الربيعي، يقول عنه في وصف يوضّح العلاقة الكبيرة بينه وبين الكاتب

"صديقي العراقي قريب إلى قلبي. عيناه عيناي، ووجهه مخضّب بحزن أتنفّسه. قُدّ من الرحيل فتلاشت العواصم فيه. يحمل بغداد وعمّان وصنعاء ومسقط في شرايينه. هادئ القسمات، بعينين تحملان كرباء والنائحات" (الفارسي ، 2023، صفحة 385)

تحمل القصة اعترافات ثقافية وحوارات في البوح بين الكاتبين. هذه القصص وغيرها تبعث الجانب الثقافي في شخصية الكاتب، وذلك لتصريحها بأمكنة وشخصيات واقعية من أجل إظهار علاقة الكاتب بشخصيات واقعية حقيقية أضافت إلى رصيده المعرفي الثقافي، وكان لها دور في تكوينه الثقافي.

علاوة على اشتغاله على عتبات النص التي كونت عناصر تشكّل ذاته، كاستفتاح مجموعاته بتوقيعات حملت أسماء بعض كتّاب السلطنة كالشاعر محمد عبدالكريم الشحي، وإسحاق الخنجري، وأحمد الدرمكي، وأحمد السعدي.

 

7-    النزعة الاجتماعية في رؤيته القصصية

تلمّس عبدالعزيز الفارسي المشكلات الاجتماعية والقضايا التي تشغل الرأي العام وتمثّلُ هاجسا اجتماعيا، "ويحاول أن يتلمس الدواء بخبرته واهتمامه وشفافيته وحسّه المرهف الدقيق، وتفاعله العميق مع أحداث بيئته، يعايشها حقيقة بقلبه وأعصابه، تنصهر في وجدانه كما ينصهر المعدن في الأتون، وتنعكس في كتاباته بصدق وأصالة كما ينعكس الشعاع في سطح المرآة، فإذا بلغ هذا الحدّ من الانفعال والتفاعل استطاع أن يلتمس لها الحلول الناجعة بخبرة النطاسي البارع وحصافة الحكيم المجرّب" (الراسبي، 2019، صفحة 335)

 

 

المراجع

إسراء سالم الخزاعي. (2017). السيرة الذاتية في جهود الدارسين العرب (رسالة دكتوراة). العراق: دامعة القادسية.

العمري خميس، و زهير عباس. (2019). التداخل بين الروائي والسير الذاتي في رواية -رجالي- لمليكة مقدم. الجزائر: جامعة مولود معمري.

بسمة عروس. (د.ت). التفاعل في الأجناس الأدبية. د.ط.

شيخة علي الراسبي. (2019). النزعة الاجتماعية في الرؤية القصصية العمانية، القاص عبدالعزيز الفارسي أنموذجا. القاهرة: مجلة كلية دار العلوم.

عبدالعزيز الفارسي . (2023). الأعمال القصصية الكاملة لعبدالعزيز الفارسي. مسقط: دار نثر.

عزيزة مردين. (د.ت). القصة والرواية. الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.

فيليب لوجون. (1994). السيرة الذاتية -الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة عمر حلي. بيروت: المركز الثقافي العربي.

لطيف زيتوني. (2002). معجم مصطلحات نقد الرواية -عربي انكليزي فرنسي-. بيروت: دار النهار للنشر.

محمد صابر عبيد. (2005). تمظهرات التشكيل السير ذاتي- في تجربة محمد القيسي السير ذاتية-. دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبدالعزيز الفارسي قارئًا

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

تسريد العتبات النصيّة في قصص عبد العزيز الفارسي القصيرة