عبدالعزيز الفارسي قارئًا
ماجد الفارسي
بيت الزبير- 8 مايو2024
على هامش الوداع بدأت
الحكاية، تأخَّرتُ في سردها كثيرا؛ شعوري بالأسى حينها أعاقني إلى حد كبير.
سأكتبها الآن. آملا ألا تجافيني اللغة مجدداً!
في نهاية جلستنا
المعتادة، وتلاشي تركيزنا في يومٍ مضى بمشاغله ومتاعبه، تمرُّ الأغاني مع ارتفاع
نسمات ليلها، تخلع رداءها ولا ترقص، تمضي في قلوبنا الذّاوية بدمٍ بارد، عالقةً في
مهبِّ من رحل، وما تبقّى لنا منها غائبٌ مع اللحن.
بعيدا عن حيرة ذاكرتي الآن إن كنّا نطرب
حقا؟! فإنني لم أنفك عن أسئلتي التعجيزية
لأخي عبدالعزيز منذ صغري، وعلى الرغم من تعقيبه الدائم عليها؛ لم أتردد حينها في
النظر إليه سائلاً بكل حيرة وحسرة:
- هاجس التفكير في الموت يراودني كل
حين، من سيذهب أولا؟ لا أستطيع تحمل هذه الفكرة. ما رأيك في هذا يا أخي؟
- "لا أدري، ربما
جميعا".
هذه الإجابة كانت
كافية لإدراكنا بعد فوات الأوان، أن فقد أخي عبدالعزيز بيننا يعني فقد حيواتنا
جميعا. ربما ظننت سابقا أن هواجِس الموت قد تسبب قلقا دائما مصحوبا بوجعٍ أحيانا
لا أكثر، وأنّ إجابته لي كانت عابرةً لإخراسِ هواجِسي المستمرة، إلّا أنني أيقنت
مؤخرا أن رد أخي "ربما جميعا" أوضح مدى عمق شعوره، وأبرز لنا
الحقيقة الصعبة التي نواجهُها كلنا، وهي أنّ الحياة قد تُباغِتُنا في أي لحظة
برحيل أحبابنا دون سابق إنذار، وعندما نخسر شخصاً نحبه، فإننا لا نفقد فردا من
العائلة أو أحد الأصدقاء وحسب، بل نفقد جزءا من أنفسنا أيضاً.
بدأت نشأتنا البسيطة كأشقّاء
وهي مليئة بالحب، لا تعقبها حواجز، متشبعة بالترابط والتلاحم الدائم. وهنا لا أدّعي
المثالية، فالحال ككل بيت تقطنه أيّةُ عائلة، لا يخلو من اليوميات العادية، والقصص
والمناوشات المتكررة، وما تحمله الأيام من تفاصيل صغيرة كانت أو كبيرة. بيد أنّ ما
يميز أخي الأكبر عبدالعزيز هو حرصه الدائم على أخوّتنا، وعدم خلق مكانٍ لتلك
الفجوة بيننا. ونتيجة لذلك، في نهاية المطاف نجد أنفسنا معاً سواءً اتفقنا أو لم
نتفق، هادمين عقبات الفوارق بكل بساطة إن وجدت. ومن هذا المدخل، يضيف عبدالعزيز دوماً
بلهجته الساخرة: "هذه النسخة الشناصية الأصلية". وهنا في اعتقادي أننا
نشعر بالحب، نستلذُّ به صوابا كان أو خطأً، ولكن لا نتجرأ على مواجهته. أي مهما
عصرتنا اللحظات الصعبة، فإن مقاومة العقل الباطن هي سمة تغلب على شناص ومن نشأ
فيها.
شناص هي منبع الصنع والتكوين، تحمل في طياتها
الذكريات، فيها حنين طفولته مع أخي زكي حيث نشأَتُهُما مترافقين كتوأم، إلا أن زكي
يصغره بعام واحد. ما ترويه ذاكرة زكي عن تزامنه معه هذه الأيام، هي علامات التعلم
السريع الظاهرة على عبدالعزيز منذ التحاقهما بالصفوف الابتدائية، مستشهدا بإشادة
معلمهما آنذاك الأستاذ السيد محمد عثمان الصديقي الذي امتدح فهمه السريع وتعلمه
الكتابة مبكرا، متنبئاً له بمستقبل واعد، وأن الملاحظة الكتابية الأولى-التي لم
ينسَها عبدالعزيز في حياته- جاءت منه، حيث كانت الاختبارَ الأولَ لقوة مثابرته،
ليجد نفسه في اليوم التالي قد تغلب عليها. ومن ثَم، في الصف الرابع الابتدائي،
أصبح لافتاً للانتباه، يكتب بخطٍ مقروء وجميل بيده اليسرى. وما إن أصبحت القراءة غايةً
واضحةً في حياته، حتى بدأ شغفه القرائي الأول من مجلة ماجد؛ المجلة الأولى في
قاموس عبدالعزيز، منها بدأت قراءة القصص والحكايات، المشاركات والمراسلات وهواة
التعارف، وحب الطوابع البريدية والكلمات المتقاطعة. ومن ظريفِ ما يُحكى عن تأثرهِ
بالمجلة إعدادُه مجلةً خاصةً لنا في المنزل شبيهةً بمجلة ماجد، ضمّن فيها قصصاً
وفقرات متنوعة، وأي معلومات وأخبار تتوفر لديه.
بعد ذلك، بدأ في
التواصل بريدياً مع إحدى دُورِ النشر المصرية التي كانت تُصْدِرُ منشوراتٍ وكتباً،
ليضيف هذه الكتب إلى مكتبة منزلنا التي يعود الفضل في إنشائها إلى والدي، الذي وضع
فيها مجموعة من الكتب المتوفرة حينها، أذكر منها ديوان مانع العتيبة؛ الديوانِ
الشعري الأول الذي قرأه عبدالعزيز، وكتبا للإمام الشافعي، ورواية "رأفت الهجان"
لصالح مرسي، وبعضاً من الكتب الأدبية التراثية للأبشيهي والأصفهاني وغيرها. لم يتغذَّ
عبدالعزيز أدبياً على الكتب وحدها، بل كان مقربا من جدي ووالدي ورفيقَهما في المجالس وشتى المحافل. حكى لنا عبدالعزيز بأن
علاقة والدي الجيدة
بالشعراء والفنانين وحضوره المجالس معهم قد نمّت فيه كثيرا حبَّ الشعر والشعراء، لا
سيما مجالسة الشاعر معضد بن ديين الكعبي التي عززت فيه حب الشعر والكتابة، وأحدثتْ
أثَرَها في نفس والدي بعد رحيل صديق عمره. أثناء تلك الفترة، استلْهم أخي من والدي
فن كتابة الرسائل والمخاطبات، وأصبح محبا للجرائد، يقرأها بشكل يومي ولا ينقطع
عنها. لم يقتصر تلقّيه الأول على الرسميات من
والدي فقط، بل كان مهتماً بالإنصاتِ إلى والدتي، فكلماته التي خُطّت لاحقا، جاءت
مغلفة بالودّ واللطف مستسقيا إياها من عطف أمه ونصائحها – كما ذكر لنا أخي سابقا. إلى
أن حانت الانعطافة الحقيقية في حياته: تَوَغُّلُ مرضِ السرطان لينهي حياة مثله
الأعلى في منتصف العمر، ويرحل جدي مخلفا أثرا لا يُمحى في نفسه. من هنا بدأت نقطة التحول،
لتتشكل الصورة الأولية لعبدالعزيز الفارسي، وتُصنَّف كعامل أساسي في تكوينه
الاجتماعي والفكري فيما بعد، موضحة ولعه بالقراءة في شتى المجالات، مُبرِزةً معالم
حُبِّه للكتابة والتدوين، معززة شغفه بالمعرفة والتعلم، واضعا طموح الطبّ نصب
عينيه، دؤوبا نحو التقدم إلى مسار علمي وأدبي منفرد.
لاحقا، أضاف أخي
العديد من الكتب والمجلات الأدبية في المكتبة، لتشمل قراءاته الأعمال الأدبية
المترجمة، أبرزها كان للمؤلفين: عزيز نيسين، تشارلز ديكنز، باتريك زوسكند، غابرييل
غارسيا ماركيز، إيزابيل الليندي، بيرل باك، غوته، فرانز كافكا، تشيخوف وغيرهم
الكثير. أما بالنسبة للمؤلفات العربية فقد كان أهمها للجاحظ، وعبدالرحمن منيف،
وجبرا إبراهيم جبرا، وطه حسين، وأمين صالح، ويوسف إدريس، وغسان كنفاني، ومحمود
درويش، وبدر شاكر السياب، وأحمد شوقي، وأمين معلوف، ونجيب كيلاني، وزكريا تامر، والصادق
النيهوم، وعمرو عبدالسميع، وغيرها من الأسماء. علاوة على ذلك، حرص على اقتناء
المجلات الثقافية الخليجية عند صدورها، مجلة العربي الكويتية، ومجلة نزوى العُمانية،
مجلة التفاهم العُمانية أيضا، مجلة دبي الثقافية، ومجلة عالم الفكر الكويتية،
والبحرين الثقافية. بالإضافة إلى كتب سلسلة عالم المعرفة والمجالات العلمية
الأخرى.
ومع تنوع الخلفية
القرائية، يستندُ عبدالعزيز في أحد تصريحاته برأي الكاتبة هيلين جارنر- دفاعها عن
الأدب كونه ترفيها راقيا عن البشرية، واعتراضها للنظرية السائدة التي تدعو إلى
نفعيةِ الأدب واقترانهِ المحصور بنقل الواقع وتصديره إلى الناس. ولأنه من المعتنقين
لهذا الرأي منذ بداياته الكتابية، فقد مثّلَ الأدب لديه أكثر من مهمة، وكلها
مهامُّ تندرج في الترفيه السامي الذي يسمو به الانسان، وتعطيه المقدرة أن يضيف
لنفسه الكثير عن طريقه، وأن يكون أكثر من ذاته. ويعلّلُ أخي أنه بالقراءة يشارك
الآخر، فقراءة كتاب أدبي مهما كان نوعه، تجعله متفاعلا مع الأديب بشكل مباشر، ليعيش
التجربة المنقولة دون أن تتأثر شخصيته. و"بما أن الأدبَ مبنيٌّ بالسعي خلف
عدم النفعية، فهو يطوّر علاقته بنفسه عن طريق فهم الآخرين في التعامل مع الحياة
وفهمها بأقصى شكل ممكن". ومن هذه الأسباب ترسخت الرغبة لدى عبدالعزيز بأن
يكون أكثر من عبدالعزيز الفارسي، في ظل الظروف التي عاشها ويعيشها.
يؤْمنُ عبدالعزيز بأن الإبداع هو مفتاح بقاء الأعمال، كأعمال الجاحظ، وجبران
خليل جبران، وطه حسين، وشكسبير، ودويستوفسكي، وشارلز ديكينز وغيرهم. ويرى أن صدق
الإبداع المرتبط بهذه الأعمال هو السر الأساسي للثبات والخلود، حيث طرقت مناطق غير
مكررة، ونحتت في أماكن لم تصل إليها البشرية، متميزة عن السائد أو المألوف.
ومتى ما توفر
صدق الوصول إلى هذه المناطق الصعبة، ستتحدى هذه الأعمال الزمن وتظل باقية، حتى لو
مرت عليها آلاف الأعوامِ، وسيرى قارئها - مهما وجد نفسه متأخرًا - أنها ما زالت
تعيد نفسها وتتجدد، ويجد فيها لذته في هذه اللحظة، وكل لحظة.
ومن هذا المنطلق شق الفارسي طريقه الأدبي والعلمي، سالكا دربا وعراً بين طب
السرطان والأدب السردي، طارقا قلوب المرضى وحاجتهم، ناحتا بقلمه حياة البسطاء
وضعفهم. عند ارتباط طب السرطان بالكتابة، يتبادرُ إلى أذهان العامّة وجود مدخل سهل
للطبيب الكاتب، بإعادة صياغة قصص معاناة المرضى وآلامهم، محاولا الهروب والتشافي
بالكتابة ذاتها. إلا أن عبدالعزيز بيّن لنا نافياً أن كليهما تحدٍّ متجدد، يملك
مفاهيم عظيمة من الصعب إدراك مدى شموليتها. وما يدركه تماما كطبيب هو القسَمُ
الطبي، وأهمية الحفاظ على سرية المريض وكتم أسراره، وبالتعامل مع الإنسان المريض
وسماع ما وراء المرض من هموم وحكايات، يتراكم الزخم الإنساني ويثمر بشكل أو بآخر
في صياغة عبدالعزيز ككاتب للرواية أو القصة، ليس بضرورة أخذ الموقف الذي عاشه
تماما، وإنما بتحويرات أخرى.
وبما أن الأمر شائك أيضا بين الكفاح البشري والبحثِ عن تحرر الذات من خلال
الكتابة - ورغم تعقيدات هذا المسار- إلا أن نتائج هذه المتاهة كانت مثريةً
لعبدالعزيز الانسان، حيث شكّلت محطات مهمة في رحلة حياته، وساهمت في تجديد نظرته
إلى الحياة مراراً. هذا التجديد المستمر أعاد توازُنَهُ الكتابي بشكلٍ دائم، وأثّر
على نموه الشخصي والفكري.
ومن منظور آخر، يعلم أخي جيداً أن أصعب الكلمات تلك التي تصفُ حالةً يومية
متكررة، فمهما بدا متفائلاً إلا أن بثّ رؤى الموت أو الغياب بشكل أو بآخر، يغدو
حاضرا في حياته ومجال عمله، وقاسَمًا مشتركًا في أعماله الأدبية، وتدويناتهِ
اليومية. كتابة اليوميات عادَةٌ لازَمت حياته، استثمرها أدبيا في فتراتٍ ما، بينما
على الصعيد الشخصي، سطّر فيها مشقّات يومه. ولمحدودية خياراته ولأنه لا ينسى الوجوه؛ فقد ظلت
كلماتُهُ تُحدِّقُ باتّساعِ الروح، متألماً بما هو يعلمه، وبما يجهله مرضاه. حاول طبيب
سرطان الرئة جاهداً أن ينجّيهم من الغرق، غير أن ّكل هذا العلمِ والجُهد؛ لم يمنعاه
من شعور الغرق داخل سوائلِ رئاتِ مرضاه. أيّةُ لُعبةٍ قاتلةٍ تلك؟!!
أخي عبدالعزيز، كيف اتّفق
الجميع على حُبّك؟ سؤال أجدُ فيه كل مرةٍ إجابةً مختلفة منذ رحيلك. هل كان التعبير
عن مشاعر قُرّائك سببا؟ أم تربيتاتك على أكتاف مرضاك بأقصى لطف؟ من الوهلة الأولى
تبدو الإجابة مركّبةً وعميقةً ومتشعبة. غير أن الجزء الثابت فيها دون تغيُّر؛ هو
ضجيجك الإنساني، الذي طرق أوتار قلوب الجميع.
تعليقات
إرسال تعليق