في حوار خاص مع المرصد الثقافي (2)، هدى حمد: الأبناء يفعلون بنا ما قد تفعله قراءة الكتب الجيدة أو الرديئة



هدى حمد في حوار خاص م المرصد الثقافي: الأبناء يفعلون بنا ما قد تفعله قراءة الكتب الجيدة أو الرديئة، إذ أنّ المؤكد دوما أنّهم يهزون شجرة أرواحنا، ويتجولون في مناطق لم نكتشفها من قبل

(الجزء الثاني)
||
- ما الذي أضافه العمل الصحفي إلى مسيرتكِ ككاتبة وإنسانة؟
- في الحقيقة الصحافة أوقعتني في فخ كبير. أرهقني لفترة من الزمن خصوصا في البدايات عندما كنتُ أكتب النص الذي يشتغل على اللغة، بينما الصحافة كانت تتطلب مني المباشرة، والموضوعية في الطرح، لذا وصلتُ إلى مرحلة كتبتُ فيها نصوصا مباشرة إلى حد قاتل. أنا بالعادة لا أضع قارئ النص في ذهني، وأنا اكتب النص الذي يخصني بينما الصحافة تتطلب مني أن أتذكر القارئ كثيرا، وأن أتباسط معه للفت انتباهه للمادة. الأمر كان بالنسبة لي كمن يحرث في الماء. الكثير من اللهاث والقليل من الأشياء يمكن أن تبقى في الذاكرة
لا أريد أن أظلم الصحافة لقد قدمتْ لي الكثير من المعارف والفرص وربما قدمت اسمي قبل أن تفعل القصص والروايات ذلك، ولكنها ليست أكثر مطامعي حقا لكونها تدفعني لمآزق وتوترات غير مُحتملة، بينما الكتابة الأخرى -الروايات تحديدا- تنشدُ خلاصا وضجيجا داخليا من نوع آخر
الأمر بات مختلفا جدا في مجلة "نزوى" الأشياء تطبخُ هنا على نار هادئة وأنفقُ أغلب وقتي فيما أحب أعني القراءة النوعية، تلك التي ربما لا اتحصل عليها لو كنتُ في مهنة أخر

||
- يقول إمبرتو إيكو في حوار له: ""للاستمرار في هذا العالم الرهيب عليك أن تكتب كتابًا أو تنجب طفلاً". إلى أي مدى غيّر الأمران (الكتابة والإنجاب) في منظورك للحياة؟
- هنالك ما كان يتغير بداخلي باستمرار وإن بدا للبعض قليلُ الأهمية، إلا أنّي استشعره عميقا جدا بداخلي، فالكتابة والأبناء على حد سواء كانا يصنعان التغيير معا. فتتروضُ أشياء كما قد تجفل أشياء أخرى. الأبناء يفعلون بنا ما قد تفعله قراءة الكتب الجيدة أو الرديئة، إذ أنّ المؤكد دوما أنّهم يهزون شجرة أرواحنا، ويتجولون في مناطق لم نكتشفها من قبل
كثيرا ما يظن الكُتاب أنّ الحمل والإنجاب هما فخ الكتابة، وأظن أنهما –بالنسبة لي على الأقل- كانا يُشعلان بداخلي مناطق مجهولة ومشاعر غامضة لم تختبر جيدا بعد
هذا لا يعني بالتأكيد أنّ –المرأة الكاتبة- ستكون رديئة عندما تختار أن لا تكون أمّا. ولكن الرواية على وجه الخصوص تغتني بالتفاصيل التي تُعايش وتُحس. أظن أنّي في مرّات مُقبلة سأكتب عن مخاض الولادة بصورة مُختلفة وأكثر إدراكا عمّا قد أفعل لو أنني لم أجرب مخاض الولادة فعلا. كما سأكتب عن هلع الأم ومخاوفها، وعن الاشتياق، وعن أول الضحكات ونكد البكاء، وعن تفاصيل لا تعرفها إلا الأمهات
أخشى ما أخشاه طوال الوقت أنّي لا أفعل شيئا البتة سوى استنساخ نفسي وإعادة انتاج أفكاري الخاصة، ولذا دائما ما أراهن على تلك المساحة الصغيرة التي أتركها لهم ليختاروا زاوية النظر للحياة بطريقة تخصهم. ولكني أعترف بأنّ الأمر لا يخلو من إرباك لا يخلو من أنانية لا يخلو محاولات مستمرة لاستنساخ قناعاتنا ولإكمال نواقصنا فيهم
من جهة أخرى أود القول أنّي لم أنجب الأبناء لكي أحسن كتابتي. يال أنانية الفكرة! . إنّ ذلك شأن آخر بالتأكيد. وأيضا ليس استجابة لإملاءات المجتمع المريض بقصص النسل والاستمرارية، وإنّما لتغذية ذلك الجانب الذي لا يُرى من روحي ومن أرواحهم أيضا
البعض يظن أنّ الإنجاب يقضي على الوقت. وبالنسبة لي كتبتُ في أصعب الأوقات، وكانت الكتابة قشة نجاتي. لذا لا أخشى كثيرا على الوقت أنا أنفقه، فأنا أغتني من ازدحاماتي أكثر مما قد اغتني من وقت فراغي المهول. الكتابة وأبنائي كانوا ينقذونني على الدوام من التلاشي ينقذونني دوما من اكتئابات ساحقة، فكلما كنتُ أتداعى كلما كنتُ أسندُ ضعفي على حائط مناغاتهم وقهقهاتهم وقصصهم التي لم يخربها "الوعي" بعد. إنّهم كالسحر والكتابة أيضا كالسحر، ولهم تأثير هائل على كل ما يطرأ في حياتي. لكن المؤكد أنّه لا توجد قاعدة تنطبق على الجميع. فالمسألة تبدأ من خيار واقعي وليس استجابة لرغبة المجتمع، فالأبناء والكتابة ليسا من ديكورات الحياة بالتأكيد. وأظنني أميلُ كثيرا للرأي الذي قالته أليس مونرو في حوار لها ، وأظن أنّنا نتشابه حوله: "كان كل حمل يحفزني على إتمام شيء ضخم قبل أن يولد الطفل. وفي الحقيقة لم أتم شيئا ضخما قط."

||
- ما الذي يحرّك بذرة الإلهام للبدء في الكتابة بالنسبة إليك؟ شخوص، أحداث، ثيمة أو فكرة ما؟
- "لا تصلح مشاريع البداية سوى لتكون وسيلة للدفع بنا لكي نرتمي في أحضان المياه الباطنية للكتابة، وبعد ذلك تشرعُ قوى أخرى غير واعية في الاشتغال"، هذا ما قاله ساباتو وما أؤمن به كثيرا
كتبتُ في أوقات عصيبة كما كتبتُ في أوقات الرخاء. انتظرتُ شياطيني كما ذهبتُ إليها. جربتُ طرقا مُختلفة للتحايل على الكتابة، فخذلتي مرّات وأعادت إليّ وهجي مرّات أخرى. لا يوجد لديّ طقس واحد أو مُحرض واحد. الشيء المؤكد في هذه اللعبة هو الاستعداد الدائم لتحمل شرور الكتابة وأنانيتها. والإيمان أيضا بأنّه لا توجد نسخة أخيرة لهذه المحاولات. فكما يقول بورخيس: "المؤلف الذي يجزم حين ينتهي من الكتابة بأنّه أنجز ما كان يود إنجازه قبل البداية في التأليف، يكون عمله حينها خاليا من أية قيمة"
علاقتي بالكتابة كانت باكرة جداً فمنذُ طفولتي بدأت بالكذب. أعني رواية القصص لمن حولي من خلال خاصية الخيال قبل التعرف على الكتابة، فكنت أجلس مع أهلي واخترع لهم الحكايات من مكان غامض. أنا نفسي كنتُ أجهله. مثلاً عندما كانت تقطع الكهرباء في قريتي الصغيرة أجمعُ إخوتي وأوقدُ لهم الحكاية فكانت هذه التجربة الصغيرة تنسيهم انقطاع الكهرباء فعلا. وكنتُ أعود من مدرستي واحكي لأمي قصصاً من وحي خيالي فأحكي لها عن المركبات الفضائية والساحرات اللواتي هبطن إلى المدرسة وعن الشجرة التي تكبر في بطني لأني أكلتُ بذور البرتقال، فتقلقُ أمي عليّ أكثر ويقرأ عليّ جدي القرآن الكريم ليطرد الشياطين، لكن شيطان الكتابة ظل يُلاحقني. في الصف الثاني الاعدادي نشرتُ لأول مرّة في حياتي في "جريدة عُمان"، وعندما أحضر لي ابن خالي اقصوصة الجريدة لم أعرف لحظتها كيف أعبر عن فرحي، فأطلقتُ ساقيّ للريح وركضتُ في مزرعة جدي بطولها، وعندما تعالت انفاسي، قلتُ لنفسي لحظتها: "هذا ما أريده حقا. هذا مصدر سعادتي الخالص". لكني كنتُ أعاني حينها من شُح الكُتب فمكتبة المدرسة ومكتبة القرية لم تكن تكفيني، ولم يكن فيها اكثر من روايات الجيب وقصص المكتبة الخضراء، ولكن عندما شاءت الأقدار وسافرتُ إلى سوريا لإكمال دراستي فتحت لي الدنيا منافذ جديدة لأكثر من حياة. أربع سنوات من حياتي في جامعة حلب غيرتني رأسا على عقب. وأضافت الكثير إلى تجربة ابنة القرية الصغيرة ، القطة مغمضة العيني

||
- هل ثمة مشاريع مقبلة فيما يتعلق بالكتابة؟
- أنا أؤمن بالكتابة كمشروع حياة وأضعُ فيها كل رهاناتي. أذهب إليها ولا انتظر مجيئها. يحصل أن تخذلني وأحذف الكثير مما قد أكتب، ولكني أبقي مسافة الأمان والمُغازلة قائمة دوما بيننا. وكما قالت ماجريت دوراس: "عندما ننتهي من كتابة كتاب لا يُمكننا الكلام عن نوع اليأس أو مقدار السعادة المُتعلقين بأي اكتشاف أو فشل يعترينا"، ولكني أبقى مترقبة متأملة دوما، ثمة أمر ما سيحدث في هذا الطريق، إن ذلك الشعور يكفيني حقا أكثر من الوصول إلى المُبتغى. وكما قال ميلان كونديرا أيضا: "ليس طموح الروائي أن يكتب أفضل من سابقيه وحسب، بل وأن يرى ما لم يروه، وأن يقول ما لم يقولوه
ودائما ما أفكر كيف كنتُ سأتخلص من أفكاري والأشياء العالقة في ذهني لو أنني لم أجد الطريق إلى الكتابة. أي امرأة تعيسة كنتُ سأكون، فلا شيء يُضاهي ذلك الانسكاب اليومي وتلك المطاردة الشهية. أما المشاريع المقبلة فلا يزال يتدفقُ على مه



.
.
.



تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ 25 سبتمبر 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

المُطرب البحَّار سالم راشد الصوري: فنان صوت من عُمان

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي