السينما الفلسطينية بين مطرقة الرقابة وسندان البيزنس
كتب: عصام زكريا
_______________
من الذى يمكن أن يهتم بقراءة موضوع عن السينما الفلسطينية؟
هذه سينما لا يرغب فى وجودها أحد، بالأصح هذه سينما لا يتحمس لصنعها أو لمشاهدتها أحد حتى فى البلاد العربية، بل حتى داخل الأراضى التى يسكنها الفلسطينيون أنفسهم لا تعرض الأفلام الفلسطينية إلا نادرًا وعلى فئة قليلة من المهتمين.. سينما لا تقف وراءها مؤسسات أو كيانات اقتصادية وسياسية تعمل على تمويلها ودعمها وترويجها ولا يوجد لها سوق توزيع أو دور عرض ترحب بعرضها
.
بعيدًا عن المهرجانات وبعض المراكز الثقافية هل سمعت عن فيلم فلسطينى يعرض فى بلد عربي؟! طيب هل سمعت عن اسم شركة عربية متخصصة فى إنتاج الأفلام الفلسطينية؟
أذكر بعض أسماء صناع هذه السينما أمام بعض المثقفين وسوف تصم أذنيك عبارات الاتهامات لفلان لأنه يتلقى تمويلاً من إسرائيل، وهذا لأنه يتلقى تمويلاً من أمريكا أو فرنسا وذاك لأنه يتلقى تمويلاً من منظمة التحرير أو من حزب الله، فإذا بدأتم فى مناقشة الأفلام ستبدأ الاتهامات لذلك الفيلم لأنه استعان بممثلين من «عرب 48»، وذاك لأنه يقف موقفًا مريبًا من المقاومة، وهذا لأنه ينسب المقاومة لفتح أو لحماس فقط، وذلك لأنه لا يدور عن المقاومة أصلاً
.
لا يكف العرب عن الحديث عن فلسطين، وعما فعله ويفعله الإسرائيليون فى فلسطين، وعن المؤامرة الكونية التى تحاك ضدهم من قبل الغرب واليهود وهوليوود، وعن الدعاية التى يروجها هؤلاء ضد الفلسطينيين والعرب عمومًا فى وسائل الإعلام والأفلام.. ولكن 99 بالمائة من العرب لا يعرفون شيئًا عن السينما الفلسطينية ولم يشاهدوا فيلمًا واحدًا فلسطينيًا...قد يكون الرقم 99 بالمائة غير دقيق، ولكن لن يشكك أحد فى أن أغلب العرب والفلسطينيين أنفسهم لا يهتمون بالسينما الفلسطينية ولا يهتمون بوجودها.
.
هناك أسباب بالطبع، على رأسها أن وجود فلسطين نفسها كان ولم يزل أمرًا افتراضيًا، حتى بعد وجود حدود وحكومة وشبه دولة مهددة كل يوم وكل ساعة بالانكماش أو الزوال، فما بالك بسينما تحتاج إلى صناعة تضم عشرات المهن والحرف المختلفة وتحتاج إلى شركات إنتاج واستوديوهات ومعامل وسوق توزيع وجمهور محدد له مكان معروف
.
أضف إلى ذلك أن الحكومات والكيانات الرسمية الفلسطينية، مثل الحكومات والكيانات العربية عمومًا، تعاملت غالبًا باستخفاف وسطحية مع السينما، معتبرة إياها مجرد أداة للتسلية والترفيه أو وسيلة للدعاية المباشرة الفجة أما السينما الفنية الجادة التى لا تنطق باسم السلطة فلطالما نظرت إليها الحكومات العربية بريبة وتوجس، وينطبق هذا على السينما الفلسطينية بشكل خاص، حتى فى البلاد التى احتضنت ودعمت المقاومة الفلسطينية مثل سوريا ولبنان وتونس، لأن الحكومات العربية بلا استثناء لديها علاقات معقدة وشائكة مع الجماعات والفصائل والتنظيمات الفلسطينية الرسمية والسرية، ومن المؤسف أن أفضل الأفلام الفلسطينية صنعت بتمويل ودعم غير عربى بالمرة والمؤسف أكثر أن الأفلام القليلة التى أنتجت بتمويل من منظمة التحرير أو بعض الحكومات العربية فى السبعينيات تعرضت لرقابة صارمة، ثم لإهمال مزرٍ حتى إن أغلبها، بل أغلب المواد الوثائقية التى صورت فى تلك الفترة فقدت ولا يعرف مصيرها فى ظل عدم وجود أرشيف للشرائط الفلسطينية حتى وقتنا هذا
.
وحتى الأفلام القليلة التى استطاعت أن تخرج إلى النور فى ظل الصعوبات الإنتاجية والرقابية لم تعرض ولم تشاهد بشكل جيد لأسباب كثيرة، منها أن أغلب العرب لا يشاهدون سوى الأفلام التجارية الأمريكية والمصرية، ومنها أن شركات التوزيع والعرض فى العالم العربى يملكها ويديرها جهلة بلا خيال أو طموح سوى المكسب السريع والمضمون
ومنها أن السينما الفلسطينية كانت دائمًا قليلة عددًا وضعيفة كيفًا، وأنها لم تشهد طفرة فى الإنتاج والمستوى إلا خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة، وبالتحديد مع ثورة الديجيتال التى مكنت السينمائيين من صنع أفلامهم دون الحاجة إلى الكاميرات والمعدات الثقيلة والأفلام الخام المكلفة ومراكز المونتاج والصوت والمعامل الضخمة، وأيضًا مع صعود وانتشار الإنتاج المشترك بين أوروبا والبلاد الشرقية والأفريقية، وقبل ذلك وبعده ظهور أجيال من الشباب الفلسطينيين خارج وداخل الأراضى المحتلة أكثر تعليمًا وثقافة ومواكبة للعصر من الأجيال القديمة التى لم تكن تتقن اللغات الأجنبية ولا التعامل مع التكنولوجيا
.
المشكلة الأكبر فيما يتعلق بالسينما الفلسطينية هى التوجه.. لمن يصنع الفيلم الفلسطيني؟ للمنظمة أو الحزب أو الحكومة التى تموله؟ أم للجمهور العربى بمجتمعاته وطبقاته المختلفة؟ أم للجمهور الفلسطينى فى المخيمات، أو الشتات فى العالم العربى وأوروبا وأمريكا؟ أم للجمهور العالمي؟ أم لمنظمى ومرتادى ولجان تحكيم المهرجانات الدولية والعربية؟ أم لمحطات التليفزيون المهتمة بالوثائقيات ومنها قنوات أجنبية وعربية كل واحدة منها «منحازة» وانتقائية بطبيعتها؟
.
هذه الإشكالية هى ما يجعل من كل فيلم فلسطينى موضوعًا مثيرًا للجدل، فالفيلم الدعائى الزاعق الذى يخدم أهداف مموليه السياسية يفتقد غالبًا للموضوعية الفنية والإنسانية التى يجب أن يتسم بها حتى الفيلم التحريضى الثورى والفيلم الذى يصنعه فلسطينيون مقيمون فى إسرائيل متهم قبل أن يعرض أو ينتج، وكذلك الفيلم الذى تموله مؤسسات أو شركات أمريكية أو أوروبية، أما الفيلم الذى يصنعه شباب فلسطينيون حاملون للجنسيات الأجنبية من الجيل الثانى أو الثالث للمهاجرين فهو يحمل نظرة غريب غربية ولا يخاطب أصحاب الشأن بقدر ما يخاطب أهل المجتمعات التى يعيش فيها هؤلاء، ولاحظ أننى لم أذكر شيئًا عن الأفلام التى يصنعها عرب أو أجانب عن فلسطين والفلسطينيين فهذه أفلام عن فلسطين وليست أفلامًا فلسطينية، وهذه لها أشكال وإشكاليات ليست موضوعنا
.
إن أكثر ما يؤلمنى شخصيًا هو أن السينما الفلسطينية قد تحولت إلى «سبوبة» و«بيزنس» لدى البعض، وأؤكد على كلمة «البعض»، من الذين وقعوا أسرى إغواءات الشهرة والعلاقات وجوائز المهرجانات والسفريات، فنسوا الهدف الأصلى وتعلقوا بالأثر الفرعى
ولكن هل الصورة قاتمة إلى هذا الحد؟
.
بالطبع لا، ولا أقول هذا من باب اصطناع التفاؤل أو إرضاء القارئ بخاتمة سعيدة، وفرغم كل ما سبق يجب أن أؤكد أن السينما الفلسطينية فى أفضل حالاتها اليوم لأنها تخلصت أو تكاد من معظم عيوب الماضى فالسينمائى الفلسطينى لم يعد جنديًا فى المقاومة بالنهار ومخرجًا بالليل أو موظفًا لدى المنظمة بالنهار وكاتب سيناريو بالليل، ومعظم الفلسطينيين الذين يصنعون الأفلام اليوم يؤمنون أن الفيلم أقوى من البندقية وأن السينما أبقى من السياسة وأن الإنسانية تسبق الوطنية وكثير من السينمائيين الفلسطينيين اليوم متمكنون من أدواتهم يجيدون لغة الصورة ويعرفون كيف يخاطبون العالم بأفلامهم ويدركون أن الدفاع عن قضيتهم ووطنهم لا يتأتى بالزعيق الدعائى المنفر، وأن القصص البسيطة يمكنها أن تعبر أكثر من الملاحم البطولية وأن تجسيد معاناة طفل أو عروس شابة واحدة يمكنه أن يترك أثرًا أعمق من عشرات الإحصائيات والأرقام الكبيرة. وحتى بالنسبة للجمهور، فإن شباب المشاهدين اليوم يعرفون عن السينما والسينمائيين الفلسطينيين أكثر مما كان يعرفه المشاهدون العرب فى الأزمنة الماضية
ولكن مرة أخرى، هناك سلبيات ونواقص لا نفع يرجى منها إذا تعامينا عنها أو تقاعسنا عن الإشارة إليها
______________
مجلة روز اليوسف
http://www.rosa-magazine.com/…/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%…
.
.
.
تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ 6 ديسمبر 2017
تعليقات
إرسال تعليق