"مقامات لام وضمّة ميم"... من سلطة النص إلى فتنة الهوامش والعتبات
مقدمة
عند الحديث عن تجربة الشاعر
محمد عبدالكريم الشحي نجد أنها تجربة امتدّت لأكثر من ثلاثة عقود، هذا إذا سلَّمنا
ببداية تجربته منذ تسعينيات القرن الماضي وتجاوزنا ما قبل ذلك من نصوص تحمل طابع
البدايات وعثرات التقليد. هنا يمكننا أنْ نفتح صفحة الشاعر وهو يقدّم اسمه في
مهرجان الشعر العماني الأول بولاية نزوى. محمد الشحي الشاعر الشاب يفاجئ الحضور
بنص مذهل إنْ صح التعبير، وفي حضرة أسماء متحققة من شعراء عمان، قدّم الشحي يومها
قصيدته "فواصل من ذاكرة بحار فينيقي"، كانت القصيدة المشاركة تقليدية في
بنائيتها، لكنها متفجرة في لغتها وعمق فكرتها واشتغالها الفني. فحقق بها المركز
الأول في ذلك المهرجان.
في رأيي الشخصي، أَعُدُّ محمد
الشحي واحداً من الشعراء الذين أسهموا في تجديد القصيدة العمانية الحديثة مع قلة نصوصه
المنشورة، لكنني أستقي ذلك مما نُشرَ في الصحف والمجلات ومشاركته في الأمسيات
الشعرية. لم يكن الشحي مجدداً في الشكل فقط، فهناك من سبقه إلى ذلك، ولكنه كان
مجدداً في الاشتغال الفني وإثارة اللغة والصورة وعمق الفكرة، نجد ذلك التجديد
واضحاً في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة التي كتبهما بلغةٍ تشي بكثير من
الثورة الفكرية والفلسفية.
في هذا العام يطالعنا الشحي
بخبر صدور مجموعته الشعرية الأولى "مقامات لام وضمة ميم"، هذه المجموعة
التي يدفعنا من خلالها الشاعر إلى الإيمان بثورة التجديد اللغوي والتشكيل الشعري
عنده، وذلك من خلال اشتغاله على قصيدة النثر في مجمل نصوص المجموعة؛ إذ على غير
العادة تسير النصوص في مسار نثري محدد، ولغة محددة أيضا لها قاموسها الخاص بها،
وهو ما شكّل مفاجأة للمتلقي بالطبع.
ولم يكتفِ الشحي باشتغاله
الواضح على تجربة قصيدة النثر فقط بل إنه جعل نصوص المجموعة تتقاطع مع تجربة
الفنان التشكيلي العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي جمع إلى جانب الفن التشكيلي رؤية
فلسفية في فهم الحياة، ورؤية صوفية، ورؤية أدبية وفكرية، فكان أن مثّلتْ إلهاماً
يستقي منه شاعرنا دلالات التعبير التي نجدها في مجموعته، وفتحت له أبواب الاتصال
باللامرئي واللامحسوس، فكانت نصوص الشحي على صلة بتجربة شاكر آل سعيد وهي صلة
استمرار واتصال في الأفكار والاتجاهات والرؤى.
تتشكّل مجموعة "مقامات
لام وضمة ميم" من خمسة مقامات حاول الشاعر من خلالها الولوج إلى عالم شاكر آل
سعيد من بوابة الاشتغال الشعري، وهنا نلحظ التفاوت في الاشتغال والتراكيب
والدلالات من مقام إلى آخر ومن نص إلى آخر أيضاً.
تمثّل المقامات في المجموعة
انعكاساً دلالياً لدى شاكر آل سعيد خصوصاً والفكر الصوفي عموماً، وهنا يوظّف
الشاعر هذه المقامات بما يخدم الناحيتين: الأولى في تجربة شاكر آل سعيد، والثانية
في التجربة الشعرية عنده.
تبدأ المجموعة بمقام
الأحافير والأحجار والجدران، إذ تمثّل الجمادات عند شاكر آل سعيد حقيقة
وجودية، ولعلّ الشحي في استنطاقه لهذا المقام يطابق على هذه الحقيقة التي يراها
شاكر، وقد استلهم الشحي هذه الحقيقة من عبارة شاكر آل سعيد صدّرها الشاعر في مقدمة
هذا المقام، إذ يقول شاكر آل سعيد: "وإنّ من أساتذتي ميزاب أو ظل أو
حجارة..."، فتدل هذه العبارة على حقيقة الأشياء وتمثيلاتها وانعكاس
وجودها داخل النص بما تقدّمه من دلالات. هنا يستنطق الشاعر هذه الجمادات كونها
خرجت من الإطار الجمادي إلى أبعد من ذلك في نظر العارف، نجد هذه الرؤية متمثلة في
نص "مسبحة صغيرة تحيط بفم الجرة"، ففي هذا النص يخلق الشحي من الجمادات
تصوراً مختلفاً قائماً على المشاركة في الحياة، فالحجر والمسبحة والخرزة التي
تشكّل رؤية عميقة في الفكر الصوفي، ألفاظ موصلة إلى الطريق الآخر ومعينة على
عبودية الإنسان واتصاله بربه، يقول مثلاً:
هأنذا ببابكَ
لم يعدْ ممكنا النظر
لأعلى
بدون نجمةٍ أو قصيدةٍ
فوق
جرحِ القرى فالغيومُ
هذا المساء
ليلُ الندرة في الريحِ
وغداً يصلُ الماءُ
غداً طوفَانُكَ
رَبّي
الذي ينزُّ من مناقبِ
البرق
فامنحني ربي حجراً يحملني
حجراً كريما يشفّ الطريق
خرزاً مثقوبا من جهتين
كي أطفوَ به تماما
كما تحمل قطعُ الفلّينِ المتراصةُ
شبكةَ الصياد
في البحار الشاسعة. (ص11)
ويقول في موضع آخر:
إلهي
نسي الحجرُ الكريمُ مهارةَ رسمِ الدوائر على
الماء
حينما أَصبحَ حجراً في دائرة
فمن يقطّر النور في بلّوره إلاكَ؟
من يعيدُ له كراماته سواك؟ (ص12)
ويقول عن المسبحة:
أنا ببابِك ألوذُ
بجمالِك
وأسألكَ باليوم الذي
جعلتُ فيه مسبحةً
صغيرةً
تُحيطُ بفمِ الجرّة
من يدري؟!
لعله بعدَ أن رحلَ
المؤمنون
سيأتي أنبياءُ الفخّار
والخزفِ
محبتُك هي سبيلي
الغبطةُ التي في غبارِ
اللقاح زادي
لن أستبدلَ حباتِ
الكرزِ بخرزي
أدعوكَ يا ربَّ العرشِ
وربَّ الحب
علمني
كيف لحجرٍ مثقوبٍ
من جهتينِ
أن يتذكرَ
كيفَ يخبئ الماءَ؟ (ص14)
ثم يتجه الشاعر
بالمتلقي إلى المقام الثاني وهو مقام الأنوار والأزمنة والنداءات، وهو المقام الذي
يتلو الأول في الترتيب ولعله أعلى تصنيفاً، إذ إنّ الأول قائم على فهم البواطن
وقراءتها واستنطاقها، أما الثاني فهو معراج إلى الأعالي، ونور يضيء الطريق، هو
النور المتمثل في كل شيء: في الحياة والفن والتصوف والدين والفلسفة وغيرها. ثم نمرّ على المقام الثالث وهو مقام النقطة، الذي
هو مقام الاتساع والبرهان والاطلاع الخفي. إنّ للمقدمة التي تتقدم هذا المقام من
كلام شاكر آل سعيد دليلاً على هذا الاتساع اللفظي والمخفي عند المتصوف؛ فهو إشارة
لما يبصره العارف دون الآخرين من معرفة وعلم، لذا تأتي نصوص هذا المقام في أكثرها
مكثفة الدلالة، مازجة الفلسفة بالتصوف وبالفن وبالشعر الذي تعمل اللغة فيه على
إخفاء الحقيقة اللفظية خلف الحقيقة التأملية، يقول في نص "لام الحيرة
الدافئة":
أنتِ "لام"ُ
الأسطورةِ إذا
الممشوقةُ
الطاعنةُ في العلاءِ
في العمرِ أيضاً ما يُكتبُ
ولا يُنطَقُ
ما يبينُ ولا يسمّى
ما يقولُ ولا يُقالُ
أنتِ إذاً العمرُ الشَّمسيُّ
لنا
"لامُ"
المنزلةِ الساطعةُ ولكن للأعلى
نورُك حوّام بين المنازلِ
والمقاماتِ وغافات
الجوزاء التي
لا تُرى بالكلمات
المجرّدة
لأنها تخصُّك وحدَك
"لام"ُ حيرتِنا
الدافئةُ
العابدةُ التي تخفي
كرامتَها
لكنَّ نورَ المكاشفاتِ
يشفّ من عودِها الناحلِ.
(ص75)
يمثّل هذا النص أنموذجاً في عميلة التكثيف
الشعري في هذا المقام، وهو بطبيعة الحال يقودنا إلى مسار المقام الأعلى، فكلما عَلَتْ
رتبة المقام ازداد معه الولوج إلى أعماق النفس، وازدادت عملية التكثيف القائمة على
سبر أغوار الحقيقة المنشودة.
في هذا المقام تمازج كبير، وتناص فكري بين النص
الشعري من جهة وبين فكر صوفي أشار إليه شاكر حسن آل سعيد في بعض مؤلفاته. وسنقف
عليه كما سيأتي في الصفحات القادمة.
أما المقام الرابع الذي تتشكل منه المجموعة فهو
مقام الأشجار والخضرة والينوع، وهو مقام الرفعة والحياة النضرة بعد العروج، يبدأ
فيه الشاعر بعبارتين لشاكر آل سعيد يستعيد فيهما روح الأشجار وتكوينها الفلسفي،
والرؤية إليها من منظور العابد الرائي لما لا يراه الآخرون، فكان نص "شطحات
الريح والحطابين" مثلاً من أهم نصوص المجموعة في التعبير الشعري واستخدامات
اللغة المعبّرة عن خلود الإنسان، والانتقال من جوهرٍ إلى آخر، ثم يُحيلنا على نص
"مديح الغابة"، الغابة التي تشكّل رمزاً مهماً في علاقة الرائي
بالأشجار؛ إذ نجده يبدأ نصه بعبارة: "الحقيقة غابةٌ في لوحة"، ثم
يُعبّر قائلاً:
وحدَها الغابةُ كعادتِها
الدائمةِ
ستكبرُ، ستفتحُ أغصانَها
للشمسِ
والمطرِ والأعشاشِ
سترفعُ البيوتَ والممشى
على أكتافِها
وستغادرُ الإطارَ. ص125
إنّ المفهوم الرمزي للغابة مرتبط بالنص السابق
عن الأشجار، كما له ارتباط ذهني بالخضرة التي ستأتي في النص الذي يليه المعنون
بـ"خرز أخضر". إذن فالخضرة والأشجار والغابة مفاهيم أخرى للعلو والرفعة
والوصول والمقام الرفيع.
وبما أنّ العارف في علاقته النهائية/ الغيبية يتمتع
بمظاهر الخلود فإن هناك "الشجرة الممحاة" التي فيها مسٌّ أو اصطفاءٌ فهي
شجرةٌ:
ليس لها حفيفٌ
ولا معاطفُ تقيها من
البردِ ولا ثمرةٌ
جعلْتُ عروقَها بارزةً
تنسدلُ كخيوطِ الماءِ
على زجاجِ النوافذِ حتى
أسفلِ البروازِ
وكلما أمعنتْ في التفجُّعِ
والحيرةِ
رفعتُها لأعلى ليطولَ
ممشى الجذورِ
وسيلانُها الضريرُ
شجرةٌ معلقةٌ في الهباءِ
كالبلادِ التي تتنزهُ
في القواميسِ والمعاجمِ
وغناءِ الرحالةِ
والغزاةِ
شجرةٌ جذورُها ممحاةٌ
كالحواسِ التي تعسُّ
الهديرَ الطافحَ في
الروحِ
شجرةٌ مبقَّعةٌ بالندمِ
تبدو من بعيدٍ
كالكلابِ البريةِ
المرقطةِ
بالممكنِ والمحالِ. (ص134)
يتشكّل هذا المقام بناء على رؤية واحدة وهي
استنطاق جوهر الشجر؛ لذا تتنوع الأشجار في هذا المقام؛ إذ إنّ كل شجرة لها تعبيرها
الداخلي فمن الشجرة الممحاة مروراً بالنخلة، وشجرة التين، إلى شجرة التفاح يغني
الشاعر إلى الأشجار ويغرق في خضرتها بلغة عميقة كعمق الذات التي يرغب في الوصول
إليها. يستخدم الشاعر دلالات الغياب والضياع والغرق والموت مقابل دلالات النمو
والخطو والتنقل والحركة، وهي دلالات تعبيرية تفضي إلى الخلود والوصول.
أما المقام الأخير الذي يبني الشاعر مجموعته
عليه هو مقام البعد الواحد، وهو المقام الأهم في تركيبة المقامات التي تشكل نصوص
المجموعة، وهو الذي عبّر عنه شاكر حسن آل سعيد بالبعد الواحد الذي يصل الإنسان
بالله، يقول جبرا إبراهيم جبرا عن تجربة شاكر: "وقد
أطلق شاكر حسن على هذا الرسم مصطلحا من عنده شاع بين الفنانين بسرعة هو
"البعد الواحد" ويعني به البعد الواحد الذي يصل الإنسان بالله".
يقوم هذا المقام في
المجموعة على نص طويل، عنونه بـ"مديح الماء في نوم الغزالة". يفيض هذا
النص بدلالات التصوف خاصة، ودلالات المعراج والخلود والاتحاد عامة، فينطلق فيه
الشاعر إلى عوالم الخلوة والخلود، وتتشكّل اللغة من القاموس الصوفي والمدائحي،
فتأتي ألفاظ المتصوف معبّرة في غير موضع من النص، مثل الإشارة إلى:
قد
يولدُ المجذوبُ مرفوعاً إذا شربتْهُ
ساقيةٌ تدورُ
ولا
تفارقُ ذروةَ الدورانِ
حولَ
الماءِ
قبلَ
الماءِ
بعدَ
الماءِ
فوقَ
الماءِ
حتى
لا يرى خطَّ التباينِ
بين
جرفِ الجوهرِ
البشريِّ
والنوريِّ في ماءِ العناصرِ
في
وداعةِ روحهِ الجذلى
فيخترقُ
الصدى
ويغادرُ
الظلَّ الجسدْ... ص152
وتصبح
طريق العابد واضحة، ومسلكه محدد فيرى في نفسه:
فزمّلوني
إنني
قمرُ القوافلِ في الطريقِ إلى المددْ
مددٌ
مددْ
من
أجلِكمْ
سأسيحُ
في عودِ القصبْ
سأطوفُ
تحتَ لحاءِ أشجارِ السّنا
وأسيلُ
في أغصانِ لوزةِ بيتِنا
حتى
يحرَّضَها السماعُ على التمايلِ في المديحْ
وأعيدُ
تفتيحَ المسامِ لكي
يمرَّ
الماءُ في أنساغِها
ويبلَّ
قافيةَ الثمرْ
مددٌ
يمرجِحُهُ مددْ. (ص154)
ويقول
أيضا:
إنني
آتٍ إلى هذي الجبالِ
أسوقُ
قطعانَ الحدوسِ
وفي
يديَّ طلاسمي:
"من جاءَ من أقصى خرائطِ
برهةِ المحوِّ الشريفِ
سيبلغُ المعنى الأجلْ
ضعْ قلبَكَ الحافي على
كفَّيكَ
واصعدْ مثلما تعلو
المحبةُ في الهواءِ المرِّ
أو جملِ الدخانِ
لتنتصرْ
عد لاسمِك الغافي على
حجرٍ قديمٍ
في انغراستِه على تلِّ
الرياحِ
وقلْ لهم ماذا تبقى من حروفٍ؟
فالحروفُ لها
حتوفْ
ماذا يقابلُ حرفَك
الباقي
من التأويلِ حين تغادرُ
اللغةُ الجريحةُ برجَها
وتصيرُ رمزاً في كراريسِ العددْ؟"
مجدي
الحنينُ إلى التفاصيلِ الصغيرةِ في دمي
أن
أسكبَ الألوانَ فوقَ الثوبِ
أو
أعطي لقِطّةِ جارنا قطاً صغيراً من خشبْ
أو
أنْ أُحَدِّثَ مقبضَ البابِ القريب عنِ
المناماتِ
الغريبةِ ما يقولُ معبِّرٌ عنها
وعن
هذا الرذاذِ إذا تكدّسَ في الحقولِ
وسارَ
فوقَ حدائقِ البللِ الرهيفِ
كأنني
طفلٌ توارى
حينما
العرباتُ مرّت كي توزّعَ حنطةَ الأعمارِ
وانزوتِ
اليمامةُ بابتسامتِه بعيداً في اللغاتِ
فنام في كفِّ السنين النيئاتِ
وجاءَ
مثلَ براءةِ النسيانِ، مثلَ الشعرِ في المنفى
ومثلَ
البذرةِ الخضراءِ في الجدبِ الحرامِ
يدورُ
في الأسماعِ
قرطاً
من ذهبْ
كبّرتُ
في الشجنِ الفصولَ
لتصبحَ
الأمطارُ خلفَ أصابعي
وأكونَ
فانوسَ القوافلِ
في
الطريقِ إلى اكتشافِ الماءِ في نومِ الغزالْ. (ص156)
فلماذا
اختار الشاعر أن يكون مقام البعد الواحد مختزلاً في نص شعري واحد؟
في
رأيي أنّ الشاعر جمع في هذا النص رحلة الفكر التي جاءت في المقامات السابقة في
المجموعة الشعرية، هذا النص هو مخزن المقامات واشتغالات اللغة والدلالات التي
حُشدت في المجموعة، لقد تمثّلت المقامات جميعها في هذا النص وكأن النص/ المقام
خاتمة العلاقة بين الإنسان وربه، وهي أعلى مراتب الوصول والاتحاد، يقول في هذا
النص مستنطقاً الجمادات وعابراً الأزمنة ومتناولاً الأشجار في خضرتها:
أنا
من شمالِ الحكمةِ المجروحِ،
من
هذا الهباء الرَّخْوِ
من
تاريخِ عصمتِه المرقّطِ
بالنوايا
الغابراتِ وبالثوابِ المستقيلِ
ونومِ
قطّاعِ الخواطرِ في صحاري الليلِ
قلتُ
كأنني أحثو على التابوتِ من ندمي المقدسِ
أو
كأني أدفعُ الأيامَ حينَ تيبَّسَتْ لتمرَّ
في
المعنى المضرّسِ
كي
يباغتَها وأُبْعَثَ من فُتاتي
لم
أعدْ أقوى على قَسَمِ الوفاءِ لدمعةِ الأسلافِ
لم
أرسمْ لهمْ قمراً على الأحجارِ
لكني
أضيءُ بالامتثالِ لهاتفِ النجوى
مناماتِ
الأبدْ
لم
أغترف من بركةِ الآلاءِ ما يدني
ولم
أنصبْ خياماً في يدِ البيداءِ
لكني
حفرتُ مناحةَ العشّاق
في
ليلِ القوافلِ بالوتدْ
يا
أيها الفانونَ في
الذوقِ
المقطّرِ من رذاذِ الصوتِ
في
جَرَسِ الغزالةِ
وهي
ترتعُ في دماثةِ غبطةِ الروحِ التي
سالتْ
هلالاً في السفرْ
لكأنها
انتبهتْ إلى عمري الذي خبأتُهُ في علبةِ الألوانِ
صاحت
من بعيدْ
:"انثرْ
هيامَك في الطريقِ
لأنَّ
هذا الوجدَ مثلُ طفولةِ الأشجارِ
تَنسى
من حصدْ
ستموتُ وحدَك يا غريبْ
وتكونُ
حطّابَ البلاغاتِ التي ذابتْ رثاءً في الكلامْ.
وتكون
نحّاتاً ينحِّي
شهوةَ
الصحراءِ للعطشِ المباغتِ
حينَ
يصنعُ من حليبِ الضوءِ أو صلصالِ دمعتِه القديمةِ
غابةً
تمشي ونهراً من وصايا اليتمِ،
أو
بحراً له قلبُ المضيقْ
أنت
الطريقةُ والطريقْ
ستعيشُ
مثلَ ترحّلِ المريخِ تمضي حاملاً ورداً لأجرامِ السماءْ
فإذا
تعبتَ من الإقامةِ في استعاراتِ الغيومْ
وتعبتَ
من تلوينِ كراسِ التخومْ
ستعودُ
أجملَ ريشةٍ
ألوانُها
اشتعلتْ فلوَّنَتِ الذرى
ومَضَتْ
لتسبحَ في الظلامْ". (ص157)
يمكننا
الوقوف في قراءة المجموعة على زاويتين اثنتين تتمثلان في:
أولاً
سلطة النص
ثانياً
فتنة الهوامش والعتبات
أولا:
سلطة النص
تتمثل
سلطة النص الشعري في أربعة جوانب يمكن قراءة المجموعة الشعرية من جوانبها
المختلفة، وهي:
أ-سلطة اللغة الشعرية
يقوم كل نص شعري على اشتغالات اللغة الخاصة به، ولكل
شاعر أدواته اللغوية، واشتغالاته والتي يكون بموجبها قادرٌ على صنع الدلالات وبناء
الصور. إنّ المتأمل في هذه المجموعة يجد أنّ الشاعر قد جعل من اللغة الشعرية مادّة
خصبة يُشكّل منها أفكار النصوص، ودلالاتها وصورها.
كذلك نجد الشاعر قادراً من خلال استعمالات اللغة على
تفتيت المعاني وإذابتها في بوتقة شعرية والزجّ بلغة متخيلة ومعانٍ غير متوقعة
فيبني من لغته بناءً شعرياً قائماً على:
- مزج الواقعي بغير
الواقعي.
-
ارتباط الفكرة باللغة، مما يؤدي إلى تماسك الصور.
-
التكثيف البارز معتمداً على النحت الدلالي والتشكيل
البصري، فنجد بصرية الصورة تُنتج دلالة شعرية معتمدة على اللغة الشعرية.
- للقارئ أن يُدرك
أنّ اللغة لها قاموسها المعجمي عند محمد الشحي (وهذه نقطة مهمة) ففي نصوصه السابقة
(المنشورة في الصحف خارج المجموعة على سبيل المثال) يتضح حجم القاموس الشعري الذي
تنبني عليه النصوص، وفي هذه المجموعة بالتحديد يظهر للقارئ أكثر من قاموس تقوم
اللغة باستيعابه، وهذا يدل على سعة اللغة لديه ومهارته في توظيفها معجمياً
ودلالياً، فنجد القاموس الصوفي، والديني، والفلسفي، والتاريخي، والأدبي والمكاني
وغيرها.
في نصوص مثل "بهو العماء"، و"أطوار"
و"بريد الغرقى" و"هذه الشمس تصيبني بالعمى"، و "شموع النذر"،
و "لام الحيرة الدافئة" أمثلة على الاشتغال اللغوي وتكثيف اللغة،
واقتناص الصورة، ففي نص "هذه الشمس تصيبني بالعمى" نجد اتساع اللغة
وثراءها في التعبير الشعري؛ إذ تحيل الألفاظ على اتجاهات مختلفة في التعبير، يقول:
أنا
حجرُ الرخام
أين
تذهبونَ بي؟
أنا
حارسُ رمادِ سلالاتِكم
أنا رغوةٌ مجففةٌ بيضاء
لأنبذةِ المقالعِ
البعيدةِ
الشريدُ في الأغنياتِ
والقيافةِ
لوحُ
الدومينو
الذي
يحمل الحيطةَ والحظَّ في آنٍ واحدٍ
أنا
قرائحُ الجبالِ المتدفقةُ بالشعرِ
وعاءُ
مناماتِ الأحافيرِ
الزمنُ
الصقيلُ اللامرئيُّ الراكضُ
تحتَ
لحاءِ الأديمِ
فلذةُ
أكبادِ الأحجارِ وحسرتُها الصافيةُ
منادِمُ
عظامِ الموتى في اللغةِ
وحطّابُها
في الخلودِ. (ص34)
كما
يمكن أن نتعرف على التنويع في استعمال اللغة فنجد الشاعر يزاوج بين لغته الشعرية
مضيفاً في مواضع أخرى اللغة السردية كما في نص "قمر الحياد" وغيره، يقول
في هذا النص:
كان من عادةِ أهلِ هذه
الديانةِ المنزويةِ في
صحفِ الأسلافِ
كالمدينةِ التي غمرتْها
رمالُ الصحراءِ الناعمةَ
أن يأخذوا صغارَهم في
المواسمِ
لرسمِ مناراتِ المرافئِ
فالمنارُ قلبُ الفضائلِ
ياقوتةٌ في الزمانِ
الملوَّث بالوجهاتِ
قمرُ الحياد
الذي يجوّدُ النورَ
ولا يأبه بالجاذبيةِ
الوثنِ
فيصعدُ ساطعاً في وجنةِ
الباخرةِ
يضيءُ للملاحِ البعيدِ
والغريقِ
والقرصانِ
ويضعُ تعازيمَه في جرحِ
العتمةِ
لتصبحَ الظهيرةُ أوضحَ
المنارُ آخرُ من تذوبُ
تلويحةُ وداعهِ
بين منديلِ الراحلِ
ودمعهِ
وأولُ من يستعيدُ
البلادَ من
الموجِ
والليلِ
المنارُ وليٌّ قديمٌ
يحملُ شعلتَه المباركةَ
ويطوفُ متنقّلا في
المقاماتِ والأحوال
وحين يشعرُ بالموتِ
يتمددُ في رسوماتِ
الأطفالِ. (ص 68)
ب-سلطة المرجعية:
تقوم المجموعة في بنائها الشعري على سلطة المرجعية، إذ
إنّ لكل نصٍ مرجعية خارجية يعود إليها في عملية البناء مع تنوع المرجعيات بتنوع
الاستخدام الدلالي؛ فتشكّل المرجعية جانباً مهماً في بنائها من خلال الفلسفة
المتشكلة في فكر شاكر حسن آل سعيد، والمتمثلة في الجانب الصوفي والفن التشكيلي
والرؤية الإنسانية المتقاطعة مع الحياة.
في كل ذلك يستعيد الشاعر هذه المرجعيات بانياً من خلالها
أفكاره النصية ومتشظياً مع الدلالات المقصودة في الحياة، ويمكن أن نقف على عدد من
المرجعيات في المجموعة مثل: مرجعيات التصوف وذلك باستخدام دلالات خاصة بالمعجم
الصوفي وتراكيب يبني عليها نصه، وكذلك مرجعيات الفن التشكيلي وهي مستقاة من تجربة
شاكر الفنية في هذا المجال، كذلك نجد مرجعيات الفلسفة وحضورها في الفكر الإنساني
عامة وفي فكر شاكر خاصة.
في نص "خطوط على الجدار" نجد أثر المرجعية في
تشكيل النص الشعري، إذ يعود الشاعر إلى إحدى لوحات الفنان شاكر آل سعيد مستحضراً
الطبيعة التي تتشكّل في اللوحة الماثلة أمام الأعين، لكن النص يستطرد في الاتساع
ويقوم على حشد الدلالات التي تحيل عليها المرجعية وهنا تظهر المرجعية المكانية
أيضا دالة على العمق الفني وارتباطها بالشعر، يقول مثلا:
رأيتُه البارحةَ يتخذُ
موقعَ ألواحِ بابلَ
ووصايا الحكماء في
القلاع العتيقة
أنا مرآتُه الصقيلةُ أم
هو القارئُ المعتدُّ
بما يراهُ في وجهي
أنا رفيقُ براعتِه
في التهشّمِ والانخطافِ
والولعِ
في النمشِ الذي على
السليقةِ
والأحزانِ الضيقةِ
التي تُورقُ عند سماع
ضحك الأطفال
أنا رفيقه في التبشيرِ
بالقيظِ
وتعبيرِ منامات النخل
والنارجيل
والعطشِ عند ذكرِ حرائقِ
المراكبِ
التي كانت تبحثُ عن
جزيرةِ الحكمة
والنياشين
في الوشمِ الذي على
الروحِ
وفي مسحِ الليلِ عن مناحاتِ
آشور
على المُلْكِ الضائعِ
لذا حملتُه إلى بيتي
مسَّدتُهُ وبكينا معا
وتعاهدنا
أن المسبوقَ إلى
نعومة الغيبِ
يكتبُ نعيَ الآخر. (ص21)
ج-سلطة التناص
تتقاطع
نصوص المجموعة مع عدد من أعمال شاكر آل سعيد ويظهر التقاطع الدلالي مؤسساً لفكرة
يقوم الشاعر ببنائها معه، وهنا تلعب النصوص دوراً وظيفياً ثانياً يجمع بين الدلالة
المرجعية وبين الدلالة الفنية.
ويمكننا
تقسيم التناص في هذه المجموعة إلى قسمين:
أولا:
تناص لغوي، قائم على استيراد ألفاظ مشتركة
ودلالات تحيل على مواطن قيلت فيها، وهي في مجملها وردت في تعبيرات مختلفة على
ألسنة شخصيات مختلفة لعل أبرزها بالطبع شاكر آل سعيد والعراق التي تربطه به، يقول
عن شاكر وارتباطه بالعراق والأصدقاء مستحضراً مقطعاً للسياب:
في آخرِ الليل نرمي في السردِ
الحكاياتِ والنكاتِ
والحصى
نرمي الذكرياتِ التي
سيأكُلُها الملحُ
حين تسيحُ حتى رئةِ
الخليجِ
فإذا افترقنا ركضتْ في
أرواحِنا
أغنياتُنا التي لا تقوى
على ملحِ الخليج
يوما ما صاح السيّاب:
"يا خليجُ، يا
واهبَ اللؤلؤِ والمحّارِ والردى،
فيرجعُ الصدى كأنَّه النشيجُ
يا خليجُ
يا خليجْ، يا واهبَ
المحارِ والردى
وينثرُ الخليجُ من
هباتهِ الكثارْ
على الرمالِ: رغوة
الأُجاج"[1]
يا صيحةَ السيَّاب، من
يا ترى دلقَ قهوتَه في دجلةَ
حتى التهمت "رغوةُ
الأجاج"
وردةَ رغوةِ قهوتِنا؟
من يا ترى رمى بالبنِّ
والنبقِ والعرّافةِ الشجرةِ
في ممشى الروح
ليطمس النظر
فأغلق
المقهى؟ (ص 101)
ثانياً:
تناص مع شخصيات: وهنا يستعيد الشاعر شخصيات يطابق بين حضورها اشتراك في الفعل،
ولعلنا نجد الشاعر في هذا التناص يستخدم ضمائر المشاركة (إننا، كأننا). نجد هذا
التناص بارزاً في نصوص مثل "وجوه في قميص الولي"، و "لنمسح الغبار
عن الهتاف".
د-سلطة
البناء الشعري والتركيب الدلالي
إن
المطّلع على نصوص المجموعة يجد فيها بناء شعرياً محكماً، وتراكيب دلالية أجاد
الشاعر استعمالها، وصوراً خلابة أبدع الشاعر في إنتاجها، لذا نجد النصوص تعتمد في
بنائها على اللغة وتكثيفها في مرحلة أولى، ثم التكثيف الصوري والبصري واللجوء إلى
استخدام التشبيه بكثرة؛ وهنا تتشكّل النصوص بين مقاطع شعرية قصيرة وبين نصوص طويلة
معتمدة على عملية الإنتاج والتكثيف؛ لذا يمكن قراءة عملية البناء في المجموعة
كونها معتمدة على:
- الغموض المكثّف،
ولعلنا نلمس ذلك عندما يتناص الشاعر مع تجربة شاكر آل سعيد التشكيلية والصوفية
والفلسفية، فيعمد من خلالها إلى تكثيف النص معتمداً على اللغة.
- الرمز، وهذه
النصوص تحمل لغة شفافة ذات نحت جمالي بديع وهي التي تقترن برؤية الشاعر للمقامات
في تأويلها الشعري.
نجد كأمثلة على هذه السلطة نصوصاً مثل:
"تشبيه" و"مسبحة صغيرة تحيط بفم الجرة"، و"نقش
قديم"، و"نشارة رائحة الخلود"، و"مخطوطة أحجار الريح"، و"ضوء
الصوت"، يقول في نص "تشبيه":
شبّه الشاعرُ
الجدارَ الطويلَ بصُحُفِ
الأولين
وكتابَ الرخامِ الملوّنِ
وسطَ الميدانِ بالمجازِ
والشجرةَ بالرحيلِ
والقبيلةَ بالحلمِ
والبلادَ بالتأويلِ
والمّارةَ بمصابيحِ الشوارعِ
شبّه لوحةَ السندباد
تحت المطرِ والريحِ بقبلةِ الطفلِ في الوداعِ
شبه النصبَ التذكاري
للجندي المجهولِ بغسيلِ الأموال
والنجماتِ البعيداتِ
بصبايا الطفولةِ
شبه أقواسَ النصرِ
بالمغناطيسِ الشاهق
الذي يجمعُ بُرادةَ الخرابِ والويلِ
شبّه وخزَ عقربِ الساعة
المدبب بالسعال
شبه العطرَ الملفّقَ
الذي يزاحمُ نشرةَ
الأخبار في مذياعِ الحافلة بالزئبق
شبه اجتيازَ معبرِ
الحدود بليلةِ عرسِ البهاليل
شبّه استدارةَ الرمالِ
بتلفّت الشجنِ
كان ينقصُهُ الدمعُ
فشبّه اللغةَ بالماءِ
وانتحبْ. (ص10)
وفي نص "نقش
قديم" يقول:
أكتبُ فوقَ الصخرةِ
أحفرُ فيها خطوطاً
مستقيمةً
نقاطاً مبعثرةً
صورةَ ظبي
رمحاً وقوساً وقلادة
قافلةً تحمل التوابلَ
وماءَ الوردِ
حصانا هاربا من الغزاة
نجمةً بحوافَّ مسننةٍ
ثم أُعاودُ قراءةَ ما
كتبتُ
فتجهشُ روحيْ القديمةُ.
(ص16)
نجد في النصين أعلاه
اشتغال الشاعر على مستويات مختلفة في بناء اللغة والتكثيف وهو بلا شك يختلف في نصوص
أكثر عمقاً، كما نجد التفاوت في دلالات الأفعال بين الماضي في النص الأول والمضارع
في النص الثاني، أيضاً نلمح مستويات متفاوتة في الصور وتعددها وانتزاعها من مماثل
لها، هذا البناء للنص الشعري يعتمده الشاعر في غير موضوع من المجموعة وربما نجد في
النصوص أعلاه مثالا واضحا.
ثانياً: فتنة الهوامش
والعتبات
تقوم المجموعة في بناء نصوصها
على تشكّل العتبات والهوامش، التي قدّمت جانباً توضيحياً سارت عليها النصوص، فنجد
الشحي يعتمد على المقدّمات في مدخل المقامات أو قبل النصوص وذلك للربط في العلاقة
بين النص والمرجعية الخارجية، نجد على سبيل المثال في نص "خطوط على جدار،
1978" أن العتبة التي يفتتح بها النص بها ارتباط فني باللوحة أو الجدار،
فيتمثل معها الرسوم الجدارية، وتقدّم العتبة هنا للدخول إلى النص موضحة أهمية
الخطوط على الجدار، وهو تناص مع فكر شاكر حسن آل سعيد الذي يقوم على استحضار
التجربة الفنية وعليه يقوم بمزج ذلك مع النص الشعري.
أيضاً فإن العتبة تقوم بدور
توضيحي يخدم النص كما يخدم بروز العنوان، فنرى أنّ الهامش السفلي لعب دوراً
متعاضداً مع العتبات قائماً على التوضيح كما ذكرت.
يتضح لنا هنا أن الهوامش
والعتبات لها دور مساهم في بناء النص بربط الواقع بالمتخيل، والنصي بالخارجي، ولا
أدل على ذلك من أمرين اثنين:
أولا: كثرة الهوامش في
المجموعة (المقدمات/ الإهداءات/ الإحالات/ الإيضاحات) وهي على كثرتها والتي ربما
سببت انزياحاً بصرياً للقارئ، فإنها ساهمت في رسم صورة توضيحية أو فنية في النص.
ثانياً: لعبت العتبات/ عناوين
النصوص دوراً كبيراً في ربط النص بالمرجعية سواء كانت فنية أو صوفية أو فلسفية،
فنجد الشحي مبدعاً في انتقاء عناوينه التي تحيل على فكرة موضوعية يرتبط بها موضوع
النص، كمثال على ذلك نجد نصوص: "مسبحة صغيرة تحيط بفم الجرة، نشارة رائحة
الخلود، خطوط على جدار، 1978، بهو العماء، هذه الشمس تصيبني بالعمى، قنديل الرؤيا،
لام الحيرة الدافئة، أنا النقطة فوق الحرف، وجوه في قميص الولي، قلب العارف، شطحات
الريح والحطابين، خرز أخضر، مديح الماء في نوم الغزالة" تقوم بهذا الدور.
لقد لعبت الهوامش والعتبات
دوراً مهما في الولوج إلى عالم النص الشعري ولعلنا نلمح ذلك جلياً في نص
"مديح الماء في نوم الغزالة" الذي لعبت عتبات النص فيه دوراً في فهم
الترابط الدلالي بين العتبة الأولى/ العنوان ورمز الغزالة عند المتصوف، وبين
العتبات الأخرى مثل الاستشهاد ببيت ابن الفارض أو بعبارة لشاكر آل سعيد ثم ارتباطهما
بالنص الشعري وفهم دلالاته وامتلاك مفاتيحه الشعرية.
خاتمة
في ختام هذه الورقة أود
التأكيد على ما يلي:
أولا: للمجموعة قيمة كبرى في
مضمونها واشتغالها الفني وفكرتها الجديدة؛ إذ قلّما نجد اشتغال مجموعة شعرية على
فكرة واحدة أو موضوع واحد أو شخصية واحدة. وهي بذلك إضافة كبيرة للمشهد الشعري
العماني المعاصر.
ثانياً: يمتلك الشاعر محمد
الشحي الأدوات التي ساعدته على تقديم نصوص المجموعة بهذه الجودة الفنية؛ فهو يمتلك
البراعة اللغوية التي وظفها بشكل سليم، كما امتلك الثروة الموضوعية في الجانب
الصوفي والفلسفي والمكاني والفني وهو ما ساعده على تقديم نصوصه وإخراجها الإخراج
الأمثل.
ثالثا: تقسيم المجموعة إلى خمسة
مقامات تنبني عليها النصوص الشعرية، الأمر الذي أتاح للشاعر الاتساع في تقديم
دلالات تعبيرية في النصوص وتكثيف لغوي وسرد تاريخي مكاني وهو تنوع خدم النصوص
الشعرية.
رابعا: فنياً، تمتاز المجموعة
بحسن السبك والتصوير الفني الجيد، وثراء اللغة، وهذا يتمثل في تنوع الدلالات
والصور والتشبيهات.
في الختام إننا أمام نصوص
شعرية فائقة الخيال، وبديعة الصنع، لعلّني هنا أتمثل مقولة أن الشاعر "ينحت
من صخر" اللغة وينقش حروفه بمهارة وإبداع.
تعليقات
إرسال تعليق