العلاقة الجدلية بين العلم والأدب -ياسر عبيد

العلاقة الجدلية بين العلم والأدب -ياسر عبيد
||
يقول إسحاق أزيموف "هناك أدب للعِلم، وهناك عِلم للأدب، إنهما ليس أعداء إنما جانبين مختلفين للنظرة الشمولية". إسحاق أزيموف هو نموذج لأولئك الذين أبدعوا وأجادوا في العلم والأدب معاً، فالعالِم من الممكن أن يكون أديب والعكس صحيح
وإذا جاز لنا التشبيه فالعلم هو عقل الحضارة والأدب روحها، والعلاقة بين الأدب والعلم قديمة جداً فهما نشآ وتطورا ونفصلا من حاضنة واحده وهي فضول الإنسان ورغبته في اكتشاف هذا العالم وخوض التجربة الحسية والوجدانية، رُبما قد يُجادل الكثيرون بأنهم شيئان مختلفان لكن لا بئس بذلك فكونهما مختلفان لا يعني بضرورة أنهما لا يمكن أن يجتمعا في عقلِ الإنسان

عندما نمارس العلم فإننا نستهدي بشكنا العقلي للوصول للقيمة الموضوعية بينما في الأدب فإن القيمة الذاتية نصل إليها من خلال إيمانناً القلبي (النفسي) فيها، ونجد أن جمال الأدب وزخرفه في الغموض والإبهام ومداعبة مخيلة المتلقي، أما العِلم فهو على العكس من ذلك قوته وجودته في الوضوح والدقة بما لا يدع مجال للتأويلات والتخمينات
الأدب يبحث عن القيمة الذاتية والتي قد يشترك فيه البشر وقد يختلفون بينما العِلم يبحث في القيم الموضوعية المستقلة عن ذات المشاهد، وبالرغم من أن المنهاج العِلمي قد أُسس ليكون مستقل ومتعالي على الذات إلا أن أحد أهم وأعمق النظريات الفيزيائية الحديثة وهي نظرية الكم وجدت أن الجسيمات لا تتمظهر ككيانات نقطية-جسيمية إلا عندما نقوم بقياسها! هي بالفعل نظرية غريبة ومن العسير أن نفصلها في هذه العُجالة، وهي عسيرة حتى على علماء الفيزياء، لذلك طرح اينشتاين سؤاله الشهير على أحد رواد نظرية الكم العالم أبراهام بايز مستغربً من فكرة أن الجسيمات لا توجد بصورتها الجُسيمية إلا عندما نقوم بقياسها بقوله: "هل تؤمن فعلاً ان القمر لا يوجد إلا عندما ننظر إليه ؟!" هذا التساؤل يعكس مدى الحيرة التي وصلنا إليها، فها نحن وعندما وصلنا إلى ذروة المعرفة العِلمية ومنتهى الموضوعية وقعنا في فخ الذاتية التي كنا نحاول الخروج منها، فإذا كان العلم قد صنع لنا التكنولوجيا ومكننا من الوصول للقمر واكتشاف ادق أسرار الطبيعة، فالأدب بمعناه العميق قد أساس لنا المجتمعات من خلال تطوير اللغة والمفاهيم القيمية والعقد الاجتماعي والأساطير وهو كذلك ما أعطى معنى لحياتنا على هذه الأرض

إن العِلم والأدب يلتقيان عند الفلسفة وينشأن من الخيال، فكما أنه لا أدب أصيل من دون الخيال، فكذلك لا علم أصيل من دون الخيال! خيال الأدب مفهوم لكن خيال العِلم قد يبدو غريب للبعض، لكن لو نظرنا إلى أهم خطوات المنهاج العلمي وهي الفرضية فهي تقوم على التخيل، ومن ثم نخضع هذا التخيل للاختبار التجريبي وهذا بالضبط ما عناه العالم ريتشارد فاينمان حينما قال: "العلم مجرد خيال مقيد" لأنه وفي المقابل فأن الخيال الأدبي حر غير مقيد بالمنطق، وعلاقة العلم بالفلسفة هي علاقة الابن بالأب فالمنهاج العلمي كان يطلق عليه قديمً الفلسفة الطبيعية، أما علاقة الأدب بالفلسفة فهي علاقة الشركاء والأزواج، فبرغم من أن طريقة عملهما المختلفة لكنهم يشتركان في إثارة تساؤلاتنا الوجودية والبحث خلف مشاعرنا ودوافعنا، وإذا كان العلم محاولة لفهم هذ العالم من منظور موضوعي فالأدب هو محاولة فلسفية لفهم وتجريب هذا العالم من منظور ذاتي، يقول الفارابي في العلاقة بين الأدب والفلسفة : كل أدب يسعى إلى الجمال يسمى فلسفة أو بمعنى أشمل حكمة
إننا اليوم بحاجة إلى ذلك العالِم الأديب الفنان، والفنان الأديب العالِم، فالإنسان من دون أدب وفن هو كائن جامد الفكر والخيال لا يمكنه أن يضيف شيء حقيقي للعلم، والأديب من دون إدراك للعلوم والطبيعة فلن يستطيع رؤية ذلك الجمال المتعالي في دقائق تفاصيل الكون وأسرار الطبيعة ولن ينتج فنوناً تماشي روح العصر
الأدب كان دائم ملهمً للعلماء، فروايات أرثر كلارك وإسحاق أزيموف وغيرهم من الروائيين هي التي ألهبت خيال العلماء وما كان خيالً في تلك الروايات كالاتصالات اللاسلكية والسفر بين الكواكب أصبح اليوم حقيقة، والعلم كذلك وضع بصمته على الأدب، فانتشار الأدب وتداوله وصل لذروته بفضل العلم ووسائله التي أتاحت لكافة سكان الأرض القراءة والإطلاع على كافة الإنتاج البشري وكذلك طبيعة الأدب تغيرت بفضل العلم، فروايات الخيال العلمي هي مزيج بين العلم والأدب حتى على صعيد الرسم والنحت والمسرح جميعها تأثرت بما وفره لها العلم والتكنولوجيا من أدوات، ولذلك فهناك العديد من الجامعات المرموقة كمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تطرح تخصصات يتم فيه توظيف التكنولوجيا والعلم في الإبداع الفني والأدبي، نتمنى أن نرى مثل هذه التخصصات في جامعاتنا ومعاهدنا الحكومية والخاصة

تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ19سبتمبر2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

المُطرب البحَّار سالم راشد الصوري: فنان صوت من عُمان

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي