استطلاع رأي/ الفلسفة بين واقع ومأمول


تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ31يوليو2017
ربما تكون مكانة الفلسفة قد انخفضت مؤخراً في مقابل الإنجازات المبهرة التي حققها العلم في مجال تفسير الظواهر الطبيعية، ولكن دور الفلسفة في التفكير المنطقي والنقد الفعال ومواضيع كالأخلاق لا يمكن التقليل منه أبدا. أضف إلى ذلك دور الفلسفة في فهم الأسس العلمية الحديثة ومناهج العلوم بمختلف أنواعها، وكذلك دورها المكمل للعلوم في فهم الإنسان وهو مجال فلسفة اللغة وفلسفة العقل. يقول علي داود معبراً عن رأيه فيما يتعلق بمكانة الفلسفة في العصر الحديث ضمن استبيان طرح على مجموعة من القراء والمطلعين
:وفي الاستبيان ذاته، جاءت آراء المشاركين على النحو الآتي
ذهب غالبية المستجيبين إلى كون الفلسفة مهمة بشكل أساسي في واقعنا اليوم، فيما ذهب البعض إلى كونها خياراً فردياً، أي مجالاً يختاره الفرد للبحث والاطلاع وفقاً لميوله الشخصية، وحول أهمية الفلسفة تقول عادلة عدي: تكمن اهمية المنهج الفلسفي في الوقت الحالي بقدرته على تمهيد طريق متوازن بين مع ما يحدث من أمور معاصرة وطريقة علاجها بوعي ومنطقية مدروسة من كل الاتجاهات، فالفلسفة رؤية شاملة تسمح لك بالتصدي للمشاكل بذكاء وحسن أسلوب، فهي تنمي القدرات الفكرية من تحليل وتفسر بدون تأثير من مجموعة متطرفة وجامدة التي قد تتلاعب، عن طريق تنشيط الوعي للمشاركة بحل المشكلات التي تحدث في المجتمع من سياسة او اقتصاد، فهي تعزز المسؤولية الفردية قبل الأهمية الجماعية التي هي أساس الحياة العامة
من جهته يعتقد سعود الزدجالي أن الفلسفة ليست حقلا ذا طابع مضموني؛ بمعنى أنها ليست مجموعة من المعارف والحقائق؛ وإنما الفلسفة منهج تفكير أو مناهج أو طرائق نظر وأسئلة حول أهم القضايا التي تشغل الإنسان اليوم كالوجود، والدين، والطبيعة الإنسانية، والحرية، والحياة، واللغة؛ وبما أن مختلف الحقول الإنسانية تتموقع داخل خطاباتها؛ فإن الفلسفة تتجه نحو اللغة لا سيما بعد فتغنشتاين والوضعانيين وفلاسفة التحليل؛ لتفكيك سحرها، والتساؤل حول طرائق التفكير والتعبير والتداول؛ وليتسنّى لها الدخول إلى المناطق المعتمة؛ وبما أن الحياة معقدة؛ والإنسان يعاني من تعقدها نحو التحول إلى "التشيّؤ" أو "توثين السلع" بتعبير كارل ماركس؛ فإن الفلسفة تروم تحليل العلاقات التي كونتها هذه التحولات في عالم اليوم؛ لذا فإن الفلسفة تتعقد أدواتها بسبب تعقد الحياة والعلاقات
وإذا كانت الأيديولوجيات أو المعارف الشمولية تنزع إلى اعتبار الصدق أهم سماتها في كل مضامينها وقضاياها؛ فإن الفلسفة إن لم تتسم بالطابع النقدي؛ فإنها خارج حدود التفلسف؛ لأنها إن شاركت هذه الأيديولوجيات الشمولية في رغبتها وشهواتها؛ فهي لا تعدو من كونها أيديولوجية شمولية تتسم بما اتسمت به، تتجاوز الأسئلة الوجودية لهذا الكائن، وتنعزل عن قلقه وتساؤلاته، وذلك يجعل الفلسفة مشتركة مع سابقاتها في الأحادية، والتعصب والعنف؛ لذا فإن الفلسفة نقديةٌ في روحها، ولا تتأبّى من طرح الأسئلة مهما كانت مؤلمة، وهي إذ تطرحها لا تمتنع عن تفكيكها وتحليلها دون تقديم إجابات لها؛ حتى لا تتحول تلكم الأسئلةُ إلى طابع صنمي نهائي يجعل الإنسان رهينَ الوهم؛ وعليه فإن الفلسفة تقدم ذاتها بوصفها ضد الأوهام، وضد الوثوقية، وضد العنف والتعصب؛ فهي مساحة حوار بمنطق ظاهراتي يطرح كل الافتراضات ويكتفي باظّهار الراهن، ووصفه
أما عن الأسباب التي يعزى إليها عدم طرح الفلسفة كتخصص أكاديمي أو كمادة دراسية مستقلة في المؤسسات التعليمية بالسلطنة فاتفقت غالبية المشاركين في الاستطلاع على أن السبب الأول هو كونها تخصصاً غير رائج في سوق العمل، ثم تأتي الأسباب الأيديولوجية والعقائدية كسبب ثانٍ
وحول تدريس الفلسفة في المدارس يقول المشاركون بأنه سيؤدي لفهم أعمق للحياة ومفرداتها، إلى جانب الانجذاب المبكر نحو القيم العليا، ولكن في نظام تعليمي يضع الشهادة فوق المعرفة والعلم لعل من الأفضل أن لا يتم تدريس الفلسفة، يقول الكاتب إبراهيم سعيد، فإذا كان تعليم الفلسفة سيكون بنفس تلك الطريقة الميكانيكية التي تجعل من العلوم والمعارف والمهارات مجرد منابع للاختبارات المدرسية وتوزيع الدرجات، وإهانة لذكاء الإنسان في صباه وإذلاله بالتلقين القسري بدعوى تعليمه.فلا داعي لها؛ ذلك أن الفلسفة سؤال، وبالأحرى فنّ السؤال وفن التفكير، وهذا النوع من المعرفة أنسب طريقة لتعليمه هي طريقة سقراط التوليدية، عبر الحوار اللماع الحي الثري والذكي الذي يقود عبر ساقية السؤال نحو المنابع الحقيقية للمعارف، السؤال الذي يثير الخيال فينا ليستفيق ويرى بعينيه رحم الواقع الذي يعيشه ويصعد به ويتسامى نحو الينابيع الصافية للمعرفة والعلم
يمكن تعليم الفلسفة كحصة رياضة ذهنية كما هي حصة الرياضة البدنية، لكن بدون اختبارات، بدون قياس مهارات تنطيط الكرة بالرأس، بل كفن، ولتعليم الفن لا بد من فنان، معلم حقيقي، ووجود مثلهذا المعلم الحقيقي في كل مدرسة صعب ونادر بنظام التعليم الحالي الذي يعجز عن ولادة فنان واحد لنا، يحمل ذلك الشغف الحقيقي، ربما يمكن ذلك فقط إذا قام الفيلسوف نفسه طوعاً بالتعليم في مدرسته الخاصة
أمّا سعود الزدجالي فيرى أن امتناع المؤسسات التعليمية أو التيارات، أو الأفراد عن الممارسة الفلسفية؛ أو لتصبح واقعا، أو ممارسة علمية، أو منهج فكير، أو اختصاصا أكاديميا؛ فإن ذلك يصدر إما عن سوء الفهم لطبيعتها، أو الخوف من نجاحها في تقويض الأوهام، أو فشل المؤسسات أن تشغل المساحات الإنسانية للتفكير في التخطيط والبناء؛ بحيث إنها تعزل "الطبيعة الإنسانية" عند بناء خططها، واقتصاداتها، وحيواتها، وهو يؤدي أو يُسهم في "التوثين" و"التشيؤ"؛ وأعني بشيء من الوضوح أن السياسات العربية تفتقر إلى من يجيد فهم الطبيعة الإنسانية، مكتفية بمضمون العلم التقني، دون فلسفته. ولقد أشار باسكال سلان في كتابه "الليبرالية" إلى المشكلة الأساسية أو "الطابع النفعي" أو تطبيق مناهج العلوم الطبيعية في العلوم الاجتماعية؛ فقد "كان التقني المتخصص يعتبر متعلما؛ لأنه تخرج من مدارس صعبة، ولكنّه كان لا يعرف إلا القليل، إن لم يكن لا يعرف شيئا عن المجتمع، وعن حياته، وعن تطوره، وعن مشاكله، وعن قيمه، وهي المعارف التي لا يمكن أن تتوفر إلا من خلال دراسة التاريخ والأدب واللغات؛ فمدرسة البوليتكنيك خرّجت العديد من المشاهير في مجال العلم، ولكنّهم ليسوا إنسيين"(سلان، 2011)؛ فهناك فرق بين "طبيب" يمارس مهنة الطب والتعامل مع المرضى، ومن يخطط لمستقبل الإنسان وحاجته إلى الطب؛ فالتفكير الكلياني لا يأتي من تخصص علمي مضموني، ولكنّه يأتي من فهم الطبيعة الإنسانية، وتفكيك لغتها
يتابع سعود الزدجالي في هذا الصدد: أعتقد أن فشل السياسة في العوالم العربية يعزى إلى جهل هذه المساحة من فهم الطبيعة الإنسانية؛ مما يؤدي بها إلى استخدام الاستبداد والقمع للسيطرة على الإنسان؛ وذلك لا يؤدي إلى النجاح؛ بقدر ما يؤدي إلى الصراع الأبدي وتكتلات الإرهاب، بيد أن الأسباب الأيديولوجية والعقائدية التي أشار إليها السؤال؛ إنما تحد من انتشار الفلسفة بوصفها طابع تفكير ناقد؛ مردُّها إلى أن الفلسفة تبحث أو تقف على القضايا ذاتها التي يقف عليها "الدين" بوصف الأخير ظاهرة إنسانية وثقافية؛ مما يجعل الدين نفسه محل بحث باستخدام الوسائل والمناهج الفلسفية؛ وإذا كان الدين يحاول تقديم "الميتافيزيقا" بوصفه إجابة للأسئلة الوجودية والمصيرية؛ وقد يتوسل العاطفة في ذلك أو البرهان؛ فإن الفلسفة لا تكتفي بتقديم بدائل التفكير؛ وإنما تحاول تفكيك الإجابات التي يقدمها الدين؛ تجديدا للأسئلة؛ وهذا يجعل الفلسفة ندا للدين، وسبيلا لقمعها، بعد رواج الدين بوصفه سلعة تجعل من السلطة عامل استقرار واستمرار، ونحن إن لاحظنا مسارات الميتافيزيقا أو المقولات الدينية الكلامية نلاحظ أيضا أن الدين تمازج مع الفلسفة وأخذ منها منطقها لبناء تلك المقولات، والفلسفة اليوم تعاني عقوق ذلك الذي توشح يوما بوشاحها، وأنكر لها مساحة الحياة والتجدد
في رؤية بعيدة المدى، يضيف إبراهيم سعيد: إننا ونحن هنا في الشرق لا يمكن أن نتتبع المسار الوحيد الذي لا يعرف غير طريق اليونان المتجه نحو الغرب مروراً بالعرب كجسر مترجم وشارح فقط، ولا يمكننا أن نهمل الحكمة الشرقية، وهي نبع معرفي مواز، لا يتم الالتفات إليه من المنظور الغربي، أما في الشرق فيحوز نفس الأهمية التي تحوزها الفلسفة في الغرب، الحكمة التي تقطر في الصين من فم كونفوشيوس ولاوتسه، وفي الهند من فم بيدبا في قصص الحيوانات الرمزية، وفي التاريخ العربي من أمثال عاد البائدة مروراً بخطب العرب الجاهلية والأحاديث النبوية وكلام المناطقة العرب الذي يسجله الجاحظ والأصمعي والتوحيدي فيكتبهم، والشعراء في قصائدهم كالمتنبي وابن دريد، تلك الحكمة عزيزة ويجب ألا نهملها كما درج المنطق الغربي، ومن تبعه من المستغربين، حيث لا نجد فلاسفة لدينا غير ثلاثة أو أربعة يعدون على الأصابع فقط لأنهم اطلعوا على أعمال اليونان القديمة والقائمة معروفة ومحفوظة للجميع
هل نحن شغوفون بالفلسفة نفسها أم بالحكمة التي تشغف لب الفلسفة، فالفلسفة في نهاية المطاف حامل وإنما البحث عن الموضوع أو المحمول، وهو الغاية، فلا نتعصب للفلسفة وننسى غايتها. ربماأتمنى أن يحفظ الطلاب أقوال الحكماء الثمينة كما يحفظون النصوص المقدسة، لعل ما سيحفظونه سيحمي أذهانهم من الظلام ويوفر مرعى لخيالهم وأسئلتهم السرية التي ستبقى ترن بأجراسها وموسيقاها وتقودهم نحو آفاق أوسع وأكثر خصوبة. لكني أخاف فعلاً من نظام تعليمي يدمر فن المعرفة الأساسي وهو السؤال، وشغف السؤال الفطري في
الطفل. وأظن لي الحق في هذا التخو
ف 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

المُطرب البحَّار سالم راشد الصوري: فنان صوت من عُمان

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي