آنّا أخماتوفا: حينما ترحل الريح، من سيهزّ الغصون؟



متخلِّصة بسرعة من الزخرفة والبهرجة البالية للرمزيَّة، شادت الشاعرة الروسية آنَّا أخماتوف (23 يونيو/ حزيران 1889 - 5 مارس/ آذار عام 1966) لغة شعريَّة قائمة على إيقاعات رشيقة ومرنة وقافية ثريَّة، وخاصَّةً على مفردات مجرَّدة وشفَّافة؛ ويبدو بناء هذه اللغة حقيقة آسرًا من فرط طراوته ونقائه، إذ تنهل في كتابة الشعر من معين أنفاسها الشفيفة والمتسامية
كانت تقول، على ما يذكر الشاعر الفرنسي غيل براستنيتزا، بأنَّ شعرها لا يمكن ترجمته؛ لأنَّه متجذِّر في سماد اللغة الروسيَّة وذاكرتها، وكانت تدرك ماذا تقول، وهي المترجمة والخبيرة بأسرار هذا الفن؛ فمفرداتها التي تبدو في منتهى الشفافيَّة في اللغة الروسية تصبح ثقيلة متى نقلت إلى الفرنسية؛ ومهما حاولنا الحفاظ على بريق قافيتها، فإنها ستبدو لا محالة بائسة ومتصنِّعة وفاقدة لنضارة معانيها في لغتها الروسية. فلا أحد قادر على محاكاة هذا النهر الدَّافق الذي هو نفس آنَّا أخماتوفا، فإنَّ كلَّ كلماتها تسافر نحو البحر وأنَّى لنا تدجين الماء والهواء، وأنَّى لنا ترجمة آنَّا أخماتوفا
لقد تسربلت آنَّا أخماتوف بوشاح كلماتها الشعريَّة التي جعلت منها خميلتها وموطن مقاومتها، فتبقى النَّاسكة والجمال المتوهِّج الذي قام جلاَّدو الستالينيَّة بحبسه. ممنوعة من النشر، ملاحقة من البوليس وبإبعاد أو قتل أقاربها، فإنها تعطي الإنطباع بأنَّها بالقوَّة الهادئة لقصائدها تواجه وحدها الاستبداد في العالم؛ وشعرها الذي نعيد بالكاد اكتشافه يجعلنا نلمس فيها ذلك الوهج المنبعث منها... نقاوة الماء
تتساءل أخماتوفا في قصيدتها " تنويع عن الغصون"
حينما ترحـلُ الريـحُ
مـن سـيهز الغصـون؟
حينما يذبل الغصـنُ
مـن سـيلمّ النـدى
في الصباح؟
.
.

وفي قصائد أخرى تقول
كلّ شيء لك: صلاة النهار
حرّ الليل الأرِق
والأبيضُ من سرب أشعاري
والأزرقُ من نار عينيّ
لم يُعشَق أحد أكثر منك
لم يعذّبني أحد أكثر منك
ولا حتى ذاك الذي خانني حتى كدتُ أحتضر
ولا حتى ذاك الذي غمرني ورحل
**
لقد لّمتُ نفسي أن أعيش ببساطةٍ وحكمة
أنظر إلى السماء وأصلّي للرب
أتنزّه طويلاً قبل نزول المساء
كي أُنهك همومي الباطلة
وعندما الأشواك تصنع حفيفها في الوهد
وعندما تتدلّى عناقيد السّمَّـن الحمراء
أكتب أبياتاً فرحة
عن انحطاط الحياة
عن انحطاطها وجمالها
ثم أعود من نزهتي
الهرّة الكثيفة الزغب تلحس راحة يدي
تخرخر بنعومة
والنار تتوهج فجأة
على برج المنشرة الصغير عند البحيرة
وحدها صرخة لقلاق يحطّ على السقف
تكسر الصمت من حين الى حين
لقد علّمتُ نفسي أن أعيش ببساطةٍ وحكمة
حتى إذا قرعتم بابي
لن
أسمعكم
ربما
**
هكذا هو الحب
تارةً يتلوّى كمثل أفعى
ويمارس سحره في أنحاء القلب
وطوراً يهدل كيمامةٍ
على حافة نافذتي البيضاء
**
هكذا هو الحبّ
قد يبرق على الجليد المتلألئ
أو يتراءى لي في غفوة القرنفلة
لكن بعنادٍ وصمت
يخطف منّي راحة البال
**
أسمعه ينتحب برقّة
في صلاة كماني المعذّب
وكم أخاف حين يعلن قدومه
في ابتسامة رجلٍ غريب
________________
http://www.thewhatnews.net/post-page.php…


.
.
.


تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ 31 أكتوبر 2017

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

المُطرب البحَّار سالم راشد الصوري: فنان صوت من عُمان

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي