التعبيرية : الفنان مصلوباً على محرقته
التعبيرية : الفنان مصلوباً على محرقته
لـ ثابت خميس
||
هل يمكن أن تكون خربشاتنا العشوائية حين نمسك القلم فنخط دون وعي كلمات أو رموز محض نشاط عضلي ؟ تبعاً لعلم النفس التحليلي من الممكن الإستدلال على مشاعر دفينة في الإنسان من خلال رسومه و خربشاته كما حدث في في عام ١٩٠٩ حين عُرضت على مؤسس التحليل النفسي سيجموند فرويد حالة ”هانز الصغير“ و هو طفل في الخامسة من عمره يعاني من الخوف من الأحصنه و قد استفاد فرويد في تحليله لرسومات الصغير هانز لدعم فكرته عن العُقدة الأوديبيه ، و مع أن هذا الاستنتاج قد تم دحضه لاحقاً من قبل العديد من علماء التحليل النفسي مثل جاك لاكان الا أن هذه الدراسه أكدت على وجود إرتباط بين التحليل النفسي و الرسم، ذلك لأن التعبير أمر تلقائي لما تنطوي عليه معالجة الرسم من خصوصيه حين يتخذ الفنان أسلوبه الخاص . و قد ميز الفيلسوف الألماني فريدريتش نيتشه ما بين نوعين من التجارب البصرية (١)، يمثل الأول النظام و الأفكار المثالية الحسنة التنظيم و الدراسة. بينما يمثل الصنف الثاني السمات الأكثر فردية و تميزاً و التي تقوم على الفوضى و المشاعر الحادة بدلاً من التفكير العقلاني
.
حين نقف أمام أي عمل فني تتبادر لأذهننا أسئلة من قبيل : عم يُعبر هذا العمل؟ و إلامَّ يرمز؟ و كيف يمكنني التفاعل معه كمتلق و متذوق؟ وقد اتخذ التعبير الفني العديد من المظاهر و مر بالكثير من التحولات التاريخيه، لكن كثيراً ما التعبير أسيراً للموضوعات و الأشكال ذات المعرفة اللإنسانية المشتركة؛ مما جعله خاضعاً بشكل دائم للسلطة الشكلية، و لعل أول ”ثورة“ حقيقية للإنتصار لجانب الشعور الذاتي ما جاءت به المدرسة (الإنطباعية\التأثيرية) حيث هدف الانطباعيون إلى تصوير ”أحاسيسهم“ من خلال ما يمكنهم رؤيته أثناء الرسم، و تتمثل هذه الأحاسيس بالتأثيرات الوامضه و الخافقة للضوء التي تلمحها الأعين أثناء النظر إلى الأشياء.(٢)
.
لكن مشكلة الإنطباعية تكمن في أنها في جوهرها فن ”صادق“ فالموضوعات التي تناولها الإنطباعيون تهتم بتصوير مواقف الحياة اليومية البسيطة تاركين عنهم قضايا الشأن العام و القصص التاريخية المؤثره و قد اتخذوا من نظرية الضوء لنيوتن منهجاً يستندون عليه في اختياراتهم اللونيه؛ بما أن الألوان محض أطوال موجيه تعتمد على منسوب الضوء الذي تعكسه العين على الأشياء حيث كان هدف الفنان الانطباعي رسم الضوء على الأسطح . تلتها اعمال الانطباعية المتأخرة أو ما بعد التأثيرية مع فنانين مثل فان جوخ و بول سيزان و جوجان و يمكن إعتبار أعمالهم انبلاجاً حقيقياً لفجر التعبيرية حيث ادخلوا اساليباً جديده على العمل كاستخدام فان جوخ لضربات الفرشاة القصيرة التي تعطي حيوية و حركة تعكس الحالة الانفعالية للفنان و استخدام سيزان للالوان الصافيه مما مهد لاحقاً لظهور المدرسة الوحشية و التي تعتبر المرحلة الفرنسية من المدرسة التعبيرية بألوانها الصاخبه .
.
في عام ١٩٠٦ نشرت جماعة الجسر التي ضمت العديد من الفنانين من أشهرهم إيميل نولده ، بيانها الرسمي إبان اقامتها لمعرضها الأول في مدينة دريسدن الألمانية و قد رسموا لوحاتهم بأسلوب يتسم بالبساطة و عدم الاتقان المتعمد أما بالنسبة لموضوعاتهم فقد إهتموا بتصوير المدينة بألوان قوية و صارخة(٣) ، قاموا من خلالها بهدم الواقع و تحويره للتعبير عن عدائية المدينة و حالة الخوف التي يشعرون بها مع اقتراب الحرب العالمية الأولى. كان الظهور الأول لمصطلح التعبيرية في عام ١٩١٠ عن طريق المؤرخ الفني التشيكي أنتونين ماتيتشيك لوصف الحالات المزاجيه و المشاعر و الأفكار التي يحاول بعض الفنانين توصيلها من خلال الصور الزاهية و القوية و العنيفة و المشوهه و يمكن القول أن الأعمال الفنية كانت ذاتيه و شخصية أكثر من كونها موضوعية و غير متحيزه أو ناقلة للواقع فظهرت لاحقاً أعمال جماعة الفارس الأزرق التي ضمت فنانين من روسيا و ألمانيا و قد تأثروا كثيراً بأعمال النرويجي إدفارد مونك صاحب لوحة ”الصرخة“. هذه الصرخة التي حررت التعبير مازال دويها مستمراً حتى اليوم في أعمال الأعمال المعاصرة مثل أعمال ستيف سالو Steve Salo و هو فنان أسترالي معاصر معروف بلوحاته التي تتسم بحمولة عاطفيه جياشه كما نلاحظ في لوحته لِندا ”Linda“ حيث استخدم سالو الألوان الزينيه على لوح من مقاس 50.5 x 40.5 سم
.
ان أول ما يشد الانتباه للِندا وجود الخط الخارجي باللون الأسود الذي يشكل الظلال في العمل و لكن استخدام الألوان كان مقصوراً على بعض أجزاء الوجه باستخدام آداه السكين و ضربات بسيطة للفرشاه بألوان تدلل على استغراقها في أفكارها مشاعرها المتناقضة متجاهلاً الخلفية و الشعر و فتبدو اللوحة غير مكتملة ، إذا ما تفحصنا قدرة الفنان على رسم الملامح و توزيع الظلال و اختياره لسمك الخطوط سندرك أنها تتسم بتوزيع لوني ينم عن خبرة أصيله، إن المودِل المرسومة في وضعية هادئه تسند خدها على راحة يدها كما لو أنها ثقل العالم مضغوط في جسدها. هكذا هو التعبير في المدرسة التعبيرية قيمة عظمى تتربع على عرش الجمال كما قال دومينيك دو روّ : ”إن كان ثمة شيء جهنمي و ملعون حقاً في هذا العصر، فهو التريث فنياً عند الأشكال، بدل أن نكون كالمعذبين الذين يتم احراقهم ، و هم يؤشرون على من يشاهدهم بإماءات فوق محارقهم“.(٤)
.
١) ٥٠ فكرة يجب أن تعرفها عن الفن ص:١٠٣
٢) المصدر السابق ص:٧٩
٣) المصدر السابق ص:١٠٠
٤) Dominique de roux: death of Celine
.
.
.
تم نشره في صفحات المرصد الثقافي بتاريخ 15 مارس 2018
تعليقات
إرسال تعليق