أول رمضان في ذاكرتهم (2)


الروائي السعودي محمد المزيني
#أول_رمضان_في_ذاكرتهم


صمتُ رمضان صغيرا وأنا في الصف الأول الابتدائي. في ذلك الوقت كان للكبار تأثير على الصغار؛ فهم قدوتهم، وكل طفل بأبيه معجب عادة ويحب أن يحذو حذوه. ساعدت على هذا طبيعة المجتمع البسيط والمتدين بالفطرة، فلم نكن نُغصب على فعل ما، بل ننصاع طواعية وبكل مسؤولية لما يطلب منا. ونفهم أن لغة التعبير عن الطلب من الأب والأم كانت قاسية، نحتت معناها من طبيعة حياتنا القاسية إلا فيما يتعلق بالصيام؛ فقد كنا نصومه حبا واستبسالا وتحديا ربما؛ لأننا نحب أن نشارك أهلينا طقوس الصيام كمواقيت الأكل بموائدها المختلفة كالشوربة والسمبوسة والمكرونة والمهلبية التي لم نكن نتناولها إلا في شهر رمضان الكريم.

نصوم على الرغم من شظف العيش وصلافة المناخ الحارق في صيف الرياض المشتعل بشمس مشتعلة بالنار. أكنا أطفالا نصوم حقا أم كصيام الدجاجة والديك كما يمازحني أبي أحيانا وأنا أتحلق معهم على مائدة الإفطار؟ والحقيقة كما قال أبي. يبدأ يومنا بعد السحور لننتشر بين الحواري نلعب كرة القدم ثم نُلحقها بكرة الطائرة، وساعة نعطش تلوذ بأزيار المساجد نعب من مائها البارد نرشق صدورنا ثم نعاود الركض خلف كرتنا (الصب)، وعندما يستبد بنا الجوع نتسلل إلى المطابخ نفتش عن بقايا السحور، وعادة ما يكون قدر الأرز يحتفظ ببقاياه. ودون أن نحدث جلبة نكون قد التهمناه وعدنا إلى ميداننا حتى قبيل صلاة الظهر، حينها تكون الشمس المشتعلة متعامدة فوق رؤوسنا ويكون أذان الظهر هو المنقذ والمنجاة لأجسادنا الصغيرة من حموتها اللاهبة. نتوضأ ونندس بين صفوف المصلين وأمام المكيفات الصحراوية التي كانت قد دخلت حياتنا حديثا. ثمة رجال ممن لم يقدروا على اقتناء المكيفات يأتون بفرشهم معهم للنوم ظهرا تحت فوهاتها المزروعة فوق أرضية المسجد، إذ لم تكن تعلق في الجدر، يتسابقون لحجز الأمكنة. أما نحن فننتصر عادة ونسبقهم إليها، ويأتي أحيانا من يطردنا ليحتل المكان، عندئذ نلجأ لحيلة المفرقعات نشعلها ونضعها في عقب باب المسجد لتدوي انفجاراتها وتنتزعهم من النوم عنوة.

هذه المشاغبات الصبيانية قد ينال بعضنا عليها العقاب الذي رغم قسوته أحيانا لا يردعنا. كنا نرى الشمس تغيب ويقترب وقت الإفطار وبعض الصبية يطردون من المنازل لتكون الطرقات مأواهم؛ لذلك تكون حيلة الصيام وسيلة لبعضنا للجلوس على هذه المائدة الشهية مع الأهل. وعقب صلاة العشاء تبدأ ألعابنا الليلية منها النارية التي نصنعها من ليف غسل الأواني الناعم، ومنها الطبول التي نصنعها من بقايا المهلبية التي كنا نسميها التطلي، ندهن بها ورق الإسمنت المقوى ونضعها بإحكام على فوهة علبة نيدو كبيرة الحجم بعدما نشقها من الجهتين، ثم نضعها تحت أشعة الشمس حتى تجف وتعطي إيقاعا نقيا.

رمضان تلك السنين كانت له نكهته ورائحته ولذته على الكبار والصغار، فأبواب البيوت كانت مفتوحة على مصراعيها ولا يدخل الحارة إلا من يُعرف باسمه ورسمه. وعادة ما تتبادل النساء طبخاتهن خصوصا متى كانت متميزة على قلتها، فهي كانت  تعني الشيء الكثير. نحزن كثيرا عندما يخرج رمضان رغم فرحنا باستقبال العيد الذي كان يعني ملابس جديدة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي