تجارب وتحديات أسر عمانية في زمن الجائحة

"متى يخلص كورونا؟"، " أريد نروح بيت جدتي" بهذه العبارات وغيرها من تلك التي تشي بالضيق والرغبة في العودة للحياة الطبيعية، تواجه معظم الأسر اليوم تحديا كبيرا مع أبنائها، فالحرص والخوف على الأبناء يدفعهم للالتزام بالإجراءات الاحترازية، بينما إلحاح أبنائهم وعدم تقبلهم للوضع المستجد يجعلهم في حيرة وشعور بالعجز. حاور المرصد الثقافي مجموعة من أولياء الأمور للتعرف على الأنشطة التي قاموا بها مع أبنائهم، والحلول التي حاولوا توفيرها لتخطي الشعور بالملل والسلبية.

البداية كانت مع الدكتورة رابعة النعماني _ وهي أم لطفلين _ حيث قالت: "كان الوضع صعبا منذ البداية مع أبنائي، كوننا تعودنا على القيام برحلة عائلية كل أسبوع، وقد مضت ثلاثة أشهر منذ آخر مرة اجتمعنا فيها مع العائلة الكبيرة، لذا تدخلنا _ أبوهم وأنا _ بشكل سريع لمنع تأثيرات هذا الوضع على الأبناء. ابني (قسورة) في الصف الأول يخضع لدروس صباحية وأنا ملتزمة بأن أكون إلى جانبه، وفي الوقت نفسه أعلم الطفل الأصغر (حيدرة) الحروف والكلمات بطريقة مختلفة وممتعة، فكوني أمه أعرف ما يمتعه ويجذب انتباهه. ولعل من حسن الحظ أن لدينا قرطاسيات وفيرة في البيت استفدنا منها في صنع الأشغال اليدوية، كما قمنا بشراء مجموعة كبيرة من القصص باللغتين العربية والإنجليزية لنقرأها لأطفالنا ونناقشهم فيها. أصبح لدينا روتين يومي يتمثل في الخروج لباحة المنزل واللعب الجماعي أو السباحة أحيانا، والبحث عن الحشرات الغريبة بجوار المنزل، وهي على ما يبدو الهواية الجديدة لأبنائي". وعن خطة العائلة للفترة القادمة قالت د. رابعة: "التحدي هو كيفية كسر الروتين والتجديد في الأنشطة، بالإضافة إلى الإنترنت والاستفادة من تجارب المقربين، كل هذا قدم لنا أفكارا رائعة لشغل أوقاتنا العائلية".

أما بدر الراشدي، وهو أب لخمسة أبناء، فيقول:" أزمة كورونا جاءت بشكل فاجأ جميع الأسر التي ربما لم تكن مستعدة وليست لديها خطط. لكن التعويل منذ البداية كان على وعي الأسرة والأبناء في قدرتهم على التأقلم سريعا مع الوضع الجديد وما صاحبه من تحديات تربوية واجتماعية، من هذه التحديات التي واجهتنا كانت تحديات اجتماعية، حيث إن أبناءنا متعلقون كثيرا بالعائلة الأكبر، لذلك كان لتقليل الزيارات والتجمعات أثر سلبي عليهم، فضلا عن تحدٍ آخر تمثل في وجودي خارج المنزل لمدة طويلة لظروف العمل في بداية أزمة كورونا، ومع ذلك فالأمر مع الوقت أصبح طبيعيا، وأصبح أبنائي يوظفون أوقاتهم بشكل أفضل وإن لم يكن مثاليا وكاملا، ولكن كما يقال ما لا يدرك كله لا يترك جله".
ولأن وجود الأطفال مع بعضهم قد يولد العراك والمشاجرات بينهم فقد سألنا الراشدي حول تعامل أسرته مع هذا الأمر فأجاب: "طبيعي جدا أن يولد وجود الأبناء معا بين جدران المنزل لفترة طويلة سلوكيات مختلفة مثل كثرة العراك والعناد وغيرها، وتجاوز هذه السلوكيات ليس بالأمر السهل، فقد احتاج الأمر منا جهدا كبيرا ومضاعفة الأوقات التي نقضيها معهم، وهذه نقطة غاية في الأهمية، فالأطفال الصغار لا يستطيعون استغلال أوقاتهم بمفردهم، ومن الطبيعي أن يضجروا من طول البقاء داخل المنزل. وفي محاولة للتخفيف من حالة الضجر قامت أمهم باستغلال أوقات (عمرو) و(ضي) في تنمية مهاراتهم الفنية واللغوية والاجتماعية، وصناعة بعض المجسمات. فيما ألعب أنا معهم ألعابا مختلفة ونحكي القصص في المساء. أما الكبار (ديمة) و(محمد) و(ريما) فقد كان لمنصات التعلم عن بعد نصيب كبير في شغل أوقاتهم، حيث اشتركنا بحساب أسري واحد في عدة منصات مثل إدلال وإدراك ومهارة وكورسيرا وغيرها، وبدأنا في التعلم مع بعضنا، ومرة أخرى: الأمر ليس سهلا ولا مثاليا ولكننا في كل يوم نتعلم شيئا جديدا"
ولأن الوضع لا يخلو من إيجابيات فقد استفسرنا من بدر الراشدي عن التغييرات الإيجابية التي فرضتها العزلة القسرية لعائلته فقال: "من الأشياء الجميلة التي أسعدتني خلال فترة الحجر الصحي أننا جعلنا من وقت تناول الوجبات جلسات للحوار والنقاش، إذ كثيرا ما نطرح مواضيع عامة من تلك المواضيع التي تثار في مواقع التواصل الاجتماعي مثلا، ونتحدث بشأنها، ونتبادل وجهات النظر، بدون وعظ ولا توجيه مباشر. وأحيانا نطلب من كل فرد أن يتحدث عن أي موضوع يفكر فيه، أو يشاركنا مهارة تعلمها أو برنامج شاهده. ولعل أفضل ما أفرزته أزمة كورونا هو التوظيف الإيجابي للوقت الكبير الذي أصبح بحوزتنا. فقد بدأتُ مع ابنتي (ديمة) مشروعا مؤجلا لفترة طويلة وأتمنى أن يرى النور قريبا، فضلا عن استمرارها في تعلم اللغة الأسبانية من خلال عدة منصات، أما (محمد)، وهو في الصف الثامن، فقد أبدع في تعلم التصميم من خلال برنامج الفوتوشوب، وقام بعدة تصاميم جميلة، منها ما هو خاص بكورونا. وابنتي (ريما) ما تزال مستمرة في تعلم العزف بعد توقف تعلمها للإبحار الشراعي بسبب هذه الأزمة، كما أن القراءة لها نصيب أكبر من أوقاتهم."
وحول رأيه في كيفية التعامل مع إلحاح الأطفال للخروج قال: "توقف أشكال الترفيه والنزهات كان تحديا لا يقل أهمية، فالأطفال مرتبطون بهذا الجانب كثيرا، وافتقادهم للترفيه والخروج من المنزل لفترات طويلة يؤثر عليهم، ولكن بتوعيتهم بخطر المرض أصبحوا أكثر فهما ووعيا، حتى عندما أذهب إلى السوق لم يعد أطفالي يرغبون في الذهاب معي كعادتهم، بل صاروا يكررون دائما: "لا نذهب بسبب كورونا". ولكن على فترات متباعدة نخرج بالسيارة نرفّه عنهم في الأماكن المفتوحة والطبيعية بعيدا عن التجمعات."
فاطمة عبدالله أم لديها أربعة أبناء، حدثتنا كذلك عن تجربتها وكيفية تغلبها على تحديات هذه الفترة وقالت: "لدي أبناء في أعمار مختلفة ولكل منهم مواهبه واهتماماته. ومنذ بدأت الأخبار تتوالى عن انتشار المرض في العالم تحدثت مع أبنائي عن المرض، وبدأنا معا في البحث عبر الإنترنت عن تفاصيل المرض وأعراضه وكيفية الوقاية منه. فعلنا ذلك وهم لا يزالون على مقاعد الدراسة، إلى أن جاء القرار بتعليق الدراسة حتى إشعار آخر. في اليوم التالي من تعليق الدراسة عقدنا اجتماعا عائلياً بسيطاً وبدأنا بجمع الأفكار والاقتراحات حول كيفية قضاء هذه الفترة في المنزل، والنشاطات التي نرغب بممارستها بالممكنات المتاحة لدينا في المنزل، وكان من ضمنها الكتابة والرسم حول فيروس كورونا باللغتين. وافق الجميع على أغلب الاقتراحات إلا أن المهمة الأصعب كانت في إقناعهم بمواصلة الدراسة وإنجاز المهام المدرسية وهم في إجازة غير معلومة الأمد. ولكن بالتحفيز والمكافأة في نهاية اليوم تشجعوا على الإنجاز؛ إذ جعلتُهم يختارون ما يرغبون أن أكافئهم به؛ فابني الأكبر الذي يبلغ الخامسة عشرة اختار أن يشاهد فلماً سينمائيًا لأنه من محبي الأفلام. أما ابني الآخر الذي يبلغ الحادية عشرة فضّل أن يستمتع بلعبته الالكترونية. أما البنت الصغرى التى تبلغ الرابعة من العمر كانت فتكتفي بتناول قطعة من الشوكولاته".
تذكر فاطمة أن هذه الفترة زادت من ارتباطها بأبنائها من خلال ممارسة أنشطة عائلية لم تكن متاحة بسبب انشغالاتها وذهاب الأطفال إلى المدرسة، تقول: "حرصت على أن ينجز أبنائي جميع ما يطلبه المنهج الدراسي من تقارير ومشاريع للمواد الدراسية مع شيء من المرح والمتعة، وكان مشجعهم الأول في ذلك هو استخدام التقنية؛ فهم يستمتعون بمشاهدة دروس المواد على اليوتيوب، كما مارسنا معا التمارين الرياضية بشكل منتظم، وأعددنا وجباتنا المفضلة معا، كما قمنا بتصميم بعض الألعاب الالكترونية بالحاسب الآلي، كما كان هناك وقت للقراءة اليومية، فضلا على قيامنا بصنع زينة لاستقبال شهر رمضان المبارك ".
وحول التحديات، تذكر أن هناك تحديين رئيسين تمثلا في اعتياد الأطفال على زيارة بيت جدتهم، وتعودهم على الخروج للمطاعم بشكل أسبوعي. تقول: "اعتاد أطفالي نهاية كل أسبوع على الذهاب إلى منزل جدتهم لذا كان السؤال الذي يتكرر في نهاية كل أسبوع: "هل سنذهب الى بيت جدتنا؟" ويأتيهم الجواب بالنفي لتحقيق التباعد حرصا عليهم وعلى أحبائهم، ولكننا تغلبنا على هذا التحدي بإجراء مكالمات فيديو مع العائلة وهو أمر أدخل البهجة إلى قلوبهم". وعن التحدي الآخر: "اعتاد أبنائي على الذهاب لتناول وجباتهم المفضلة في المطاعم، ولكني وجدت الحل بتعلم وجباتهم المفضلة عن طريق اليوتيوب، ومن ثم تطبيقها في المنزل".  وتنصح فاطمة الأمهات بتعليم الأطفال بعض المهارات والأساسيات في المنزل مثل ترتيب الغرف وأدراج الملابس ومساعدة الوالدين في الأعمال المنزلية كونها فرصة لتقوية العلاقة بالأبناء عبر الحوار والمشاركة.
أما الدكتور سالم بن سعيد الوهيبي، فقد استغل هذه الفترة للتركيز على تعزيز الجانب التعليمي لدى أبنائه، يقول:" في بداية الأمر كانت هناك بعض التحديات التي واجهتني من قبل أبنائي منها شعورهم بالضجر والفراغ وذلك لاعتيادهم على روتينٍ خاص في حياتهم اليومية؛ فطبيعة البشر لا تتقبل أي تغيير مفاجئ مما يؤدي إلى بعض الاختلالات. أحببت أن أعيد توازن الأمور وأفتح لهم مدارك عقولهم من خلال وضع خطة متكاملة تحرص على الأخذ برأي الأبناء وليس بإجبارهم عليها، وهي خطة تتمحور حول أنشطة تهدف إلى تعزيز مهاراتهم العملية والإدراكية في المجال الدراسي والاجتماعي. فقد قامت ابنتي (ماريا) ذات الأحد عشر عاما بالمشاركة في منصة تعليمية طرحت أنشطة في مجال التعلم ومنها البرمجة الرقمية والحساب الذهني. كما قامت ابنتي الأخرى (فاطمة) ذات الثلاثة عشر عاما بإكمال أنشطة برنامج (ستيم مايندز) التي نظمتها إحدى المؤسسات عن بعد وتتضمن أنشطة في مجال البرمجة والتفكير النقدي. واستكمالاً لمبدأ صقل المهارات الفكرية والإدراكية قمنا أنا وأبنائي الآخرين بتخصيص وقت في اليوم لممارسة الهوايات المحببة لهم وأسعى دائما لاغتنام الفرصة ومشاركة كل واحدٍ منهم في تلك الهوايات حيث إنها فرصة مثالية لتقوية الروابط ". 


كما التقى المرصد الثقافي بالتربوية أسماء البلوشي للاستفسار منها حول مدى أهمية مواصلة العملية التعليمية للأبناء، والمقترحات التي توصي بتطبيقها داخل الأسرة فقالت: "يقال "رب ضارة نافعة" وبالنسبة لحالة التأزم الصحي التي تمر بها الكرة الأرضية فإن الكثير من الأضرار لحقت بالقطاعات الرئيسة في العالم، ومن ضمنها قطاع التعليم بالطبع، إذ أغلقت المدارس باختلاف مراحلها في معظم بلدان العالم، بل وأعلنت عدد من الدول انتهاء فصلها الدراسي تطبيقا للتباعد المجتمعي وحثا على مواصلة تطبيق الاحترازات الصحية، وهنا يظهر دور الأسرة في دعم التعليم لأبنائها إلى جانب الوسائل التي وضعتها الوزارة المتمثلة في البرامج التلفزيونية والمنصات الإلكترونية. تستطيع الأسرة أن تعزز الكثير من القيم والمعارف والمهارات الحياتية خلال فترة الحجر المنزلي بدءاً بتعزيز القيم الدينية من خلال قراءة القرآن وتعلّمه وقراءة السيرة النبوية إضافة إلى قراءة القصص والموسوعات المتوفرة بشكل مجاني على شبكة الانترنت، كما تستطيع الأسرة تعزيز الهوية الوطنية لدى أبنائها من خلال التزامهم بالاحترازات الصحية وتوجيههم إلى أهمية البقاء في المنزل من أجل حماية بلادنا الحبيبة عمان، وأن هذا من شأنه أن يعزز اقتصادها ويجنبها خسائر بشرية ومادية كبيرة، إضافة إلى تعزيز قيم الأسرة من خلال حثهم على التعاون والتكافل فيما بينهم، وبأن هذا الفعل هو أقل ما يمكن فعله من أجل الحفاظ على مقدرات هذا الوطن الجميل. 
وتضيف: "من المهم أن يدرك كل من الأم والأب بأن عملية التعليم تسير وفق بناء تراكمي رأسي في الكثير من المراحل الدراسية، لذلك عليهم أن يشجعوا أبناءهم على استكمال بعض الموضوعات الدراسية في قالب من التشويق والمرح، كتشجيعهم بعمل بعض التجارب العلمية المنزلية أو تطبيق بعض الألعاب التعليمية في مواد اللغة الانجليزية واللغة العربية كلعبة المتاهة أو إيجاد الكلمة الجديدة أو لعبة الأحجية أو اختيار الكلمة الصحيحة للصورة أو المسابقة الشفهية أو كتابة القصص القصيرة إذ يمكن الاستعانة بتطبيقات الانترنت المجانية لإتمام هذه المهمة".
أما عن الجانب الجسدي والنفسي فقالت:" حفاظا على نشاط الأبناء وحيويتهم الجسمانية خلال فترة تعليق الدراسة فإن هناك الكثير من الأنشطة الصحية التي يمكن للآباء والأمهات تطبيقها لأبنائهم في جو المنزل مثل كرة القدم أو كرة الطائرة أو الألعاب الشعبية القديمة أو لعبة الاختباء  أو لعبة قفز الحبل وغيرها  
كما يمكنهم تعزيز الجانب الاستقلالي لدى أبنائهم كالقيام بترتيب غرفهم أو المساعدة في بعض مهام المنزل كغسيل الملابس أو ترتيب دواليبهم الخاصة أو طبخ بعض الأطباق السهلة"  







(الصور من نشاطات د.رابعه مع ابنائها)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي