مجتمع لا يُبالي

أشار مرة الكاتب والناشط إيلي ويزل أن نقيض الحُب هو اللامبالاة وليست الكراهية، وكما يبدو للناظر على الأقل، أننا نطبق مقولته هذه الآن في جائحة كوفيد 19 حيث إنها تجبرنا على إيجاد طرق جديدة للموازنة بين العزل والمساهمة في حل الأزمة، وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي نُطوع فيها قدراتنا ونشارك في حل أزمة عالمية فقط من خلال البقاء في المنزل!
إن إسهام التغييرات السلوكية الفردية في إدارة أزمة عالمية التي عادة تُعد شيئًا عاديًا يمكن اعتباره حلًا عمليًا في هذه الأزمة حيث العزلة تعني هنا أننا نهتم بالآخر ونحرص عليه.

تكمن المشكلة مع ذلك في أننا تكيفنا على التعبير عن الاهتمام علنًا، وإظهار حالة الاهتمام الدائمة هذه عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ونخشى أن الصمت قد يكون مرادفًا للامبالاة. يرتبط الإكتراث بشيء ما سواء كان قضية أو مأساة أو أزمة ارتباطًا وثيقًا بكيفية التعبير عن هذا الاكتراث، ومع حالة العزل هذه التي نعيشها اليوم، لا يمكن لأحد أن يرى قلقنا اتجاه هذه الأزمة كما لا يمكننا قياس مدى التزام الآخرين بالعزل واهتمامهم بما يحدث، ونتيجة لذلك يصبح إيماننا ببعضنا البعض هشًا شيئًا فشيئا.
إن الخوف من أن يُفهم اهتمامنا السري على أنه لا مبالاة أدى إلى تصاعد الأداء العام في الالتزامات المختلفة كالتبرع لصناديق دعم الخدمات الصحية والتصفيق الأسبوعي للكوادر الصحية الوطنية. حتى أن إظهار طقوس المشاعر المشتركة هذه قد يعكس انزعاجًا خفيًا حيث إن الحظر يشبه الأسر كثيرًا. ماذا لو أننا أُجبرنا على البقاء في منازلنا ولم يكن اختيارًا شخصيًا للصالح العام؟ وفي حين أن الهرب يُعد خيارًا صعبًا، ماذا لو تحولنا من دور سجين أُجبر على البقاء في المنزل إلى دور شرطي يحافظ على الصالح العام؟
إن التحول لمكان الشرطي ولعب دوره في فرض الإجراءات يحل كل المشاكل دفعة واحدة، ليس فقط في التخلص من الأسر وإنما بإظهار الاهتمام الكبير الذي سنوليه للعاملين الصحيين وكبار السن والتأكد من تطبيق سياسة التباعد الاجتماعي بحذافيرها.
نجد أيضًا تدرجا في مستوى النزاهة والاهتمام، فهناك من يلتزم بالبقاء في المنزل فقط، وهناك من ينضم لفرق الدعم والتضامن وهناك آخرون من يعلقون لوحات تحذيرية عنيفة اللغة في الحدائق والطرق التي يسلكها الذاهبون للعمل. وكوننا أحد هؤلاء الأشخاص سنرى بالطبع بأننا أقل الناس لامبالاةً في المجتمع. وبحسب التعريف السابق أيضأ إن كنا الأقل لامبالاة حينها سنكون أكثر الناس محبةً.

وهذه هي معضلة الحُب، غالبًا ما يتجلى في صورة خوف، حين نحب أحدهم نخاف عدم اكتراثه لهذا الحُب، حتى إن أحببنا بلدًا نخشى من ألا يترك لنا اضمحلاله أو ازدهاره مكانًا فيه. في الحُب دائمًا هناك حدود، منطقة ما يلتقي فيها ما نحُب مع ما هو مُستبعد ودائمًا ما نُخفف حدة مخاوفنا بتقوية هذه الحدود من خلال مراقبتنا الدائمة لها، وفي الحالة التي نعيشها الآن فإن هناك رأفة ضبابية وراء إجراءات السيطرة وستترجم إجراءات السلطات الصارمة والموسعة إلى أنها لغة من لغات الحُب والاهتمام.
حينما سنبدأ بالعودة إلى الحياة الطبيعية رويدًا رويدا، ستتغير مشاعرنا اتجاه هذه الفترة التي مررنا بها في الحياة، سيخرج من نجا منا من هذه الجائحة إلى عالم متغير غير مستقر، سنشعر بالاحتجاز في الأماكن المفتوحة التي اعتدنا ارتيادها في عالمنا. صالونات التجميل، محطات القطارات، المكاتب الموحشة .كل هذه الأماكن سيعاد توطينها وسنضطر التعايش فيها رغمًا عن وجوب تجنب الغرباء الذين لا نتوقع سلوكياتهم ويصعب علينا التحكم بها.
وعلى غير العادة، سيصبح اتصالنا ببعضنا البعض مسألة فوضوية، خطيرة ولا يمكن التنبؤ بها. وبالرغم من بهجتنا العارمة بسبب استعادتنا حرياتنا بعد هذه الأزمة، إلا أنها سيشوبها شيء من الهلع. ومع يأس السلطات المعنية في إيجاد طريقة لطمأنتنا، مع إدارتها الحازمة، سنجد فقط رسائل متضاربة ورسوم بيانية مطلسمة ونصائح فارغة في أن نبقى متأهبين دائمًا لأي ظرف، إذا لم تستطع السلطة السيطرة على انتشار الفيروس، هل علينا أن نتحكم في بعضنا البعض؟
إن نجاح الحياة بعد هذا الإغلاق الطويل لن يعتمد على التفاوض في التفاصيل المربكة التي تخص التباعد الاجتماعي أكثر من اعتماده على توازننا وتهدئة الغريزة البشرية القلقة، وإلا فسنخاطر بتحويل عالمنا الجيد إلى مكان أسوأ. عالم من الاستياء التافه والوساوس المكدِرة، حيث إننا لن نكتفي فقط بتسجيل الدخول لتطبيق ما لرصد تحركاتنا وأعراض قد تظهر علينا، وإنما سنبلغ الجهات المختصة عن أي رحلات أو أعراض المرض التي سنلاحظها على من هم حولنا من جيران. ستمتليء برامج التواصل الاجتماعي بصور ومنشورات شقية لتجاوزات الغرباء، سيصبح العالم مكانًا لا نكتفي فيه بالحفاظ على التباعد الاجتماعي وإنما مكانًا نطالب فيه بشراسة الحفاظ على التباعد الاجتماعي.
هذا التركيز الضيق بين الأشخاص تشويه موائم للواقع، ولم تنبثق حالة الفشل هذه التي نمر بها من التجاوزات البسيطة من قبل الأفراد، فنحن لا نواجه أسوأ رقم وفيات في أوروبا فقط لأن جارك ذهب إلى المنتزه مرتين بدل المرة الواحدة، نحن غارقون في هذه الكارثة كنتيجة مباشرة للعقود الطويلة من اللامبالاة.
 ما نمر به الآن في جائحة كوفيد 19 ما هو إلا انكشاف لحدود التراحم فيما بيننا، فكل فعل يصدر عن لامبالاة يُصبح عنصرًا ناقلًا للعدوى. هؤلاء من هم أكثر حاجة للحماية أصبحوا دون حماية، ومن هم أكثر حاجة لملجأ يأويهم أصبحوا محرومين منه، وأولئك من هم على شفا حفرة من الموت انزلقوا إليها دون مساعدة. فوارق صحية قُسمت لأجيال من الدرجات: العرقية، الاقتصادية، والطبقية، مما أدى إلى توزيع غير متساوٍ للمكابدة والمعاناة والوفيات إثر الجائحة. 


كتبه:سام بايرز 
ترجمة: فاخرة يحيى
المصدر:


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي