البحث العلمي في زمن الأزمات

 

أجبرت سرعة تفشي فيروس كورونا البشريةَ على إجراء الأبحاث وصياغة السياسات واتخاذ القرارات بسرعة غير مسبوقة خارج نطاق الحروب. وقد كشفت هذه الجائحة عن بعض الفجوات الموجودة في هذه العمليات، وقد قدّمتُ دليلًا على بعضٍ من هذه الإخفاقات في كتابي "The State of Science" (حالة العلم). ويعد فيروس كوفيد 19 معضلة حقيقية، نظرًا لعناصره المتناقضة وغير المكتملة والمتداخلة وسريعة التغيُّر، كما أنه فيروس مقاوم للحلول الموجودة حتى الآن.


ظل علماء الأوبئة يتنبأون ويستعدون لتفشٍ فيروسي مثل كوفيد 19 لسنوات عديدة؛ وذلك بسبب الزيادة في أسواق الحيوانات الحية - التي هي بمثابة أوعية خلط فيروسية - والكثافة السكانية وزيادة السفر حول العالم، كل هذا جعل من الوباء أمرًا لا مفر منه، ولكن على الرغم من ذلك لم نكن مستعدين لهذه الجائحة.

إن الميزانيات المرصودة للوكالات الفدرالية التي ربما موّلت وأجرت أبحاثًا للمعاهد الوطنية للصحة ومؤسسة العلوم الوطنية تحديدًا لتهيئة الولايات المتحدة لشيء كهذا تشكل 7% فقط من مجمل ما تنفقه الولايات المتحدة على الدفاع. كانت البلاد مستعدة للهجمات الإرهابية والحرب لكنها غير مستعدة لفيروس SARS-CoV-2 والمسبب لكوفيد 19، ولم تكشف الجائحة عن نقص المعرفة العلمية بين المسؤولين وحسب، وإنما أيضًا عن انخفاض قيمة الخبرة العلمية، فضلًا عن عواقب اقتصاص ميزانيات الوكالات العلمية الحكومية بما في ذلك مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.

(العلم السيئ) هو أحد فصول كتابي الأخير (حالة العلم) يتناول البحث المحوّر لمكاسب شخصية أو سياسية. خلال هذه الجائحة، تعد مراجعة الزملاء لأبحاث بعضهم البعض أمرًا ضروريًا أكثر من أي وقت مضى، لكن هذا النوع من المراجعات لم يُصمَم للفترات الزمنية السريعة، حيث يعمل الباحثون الأكثر تأهيلًا على مراجعة أبحاث علم الفيروسات وعلم الأوبئة والنمذجة الخاصة بفيروس كوفيد19، وليس لديهم الوقت لمراجعة أبحاث أخرى. ومن المفترض أن تسُدّ خدمات ما قبل الطباعة هذا الفراغ ولكنها غارقة في إنهاء أبحاث الفيروس الجديد وإرسالها، ومع تفاقم الأزمة في البداية كان الجميع خبيرًا في مجال الأوبئة، والجميع يريد جزءًا من الغنيمة مما جعل عدد الخبراء المراقبين للجودة غير كافٍ، ومثلت هذه الظروف أرضًا خصبة للمعلومات الخاطئة وسوء استخدام العلم والمعلومات.

مع توسع شبكة الإنترنت من موقع واحد في عام 1991 إلى 1.6 مليار موقع في 2018 أصبح لدينا الإمكانية للوصول لأخبار ومعلومات أكثر من أي وقت مضى، مما أدى إلى انتشار الشائعات وتضخيمها بين الناس من خلال المواقع الإلكترونية وبرامج التواصل الاجتماعي. وقد قام مانليو دي دومينيكو - رئيس وحدة أبحاث الشبكات متعددة الطبقات المعقدة (Complex Multilayer Networks Research Unit) في مؤسسة برونو كيسلر في تورينتو الإيطالية CMNRU - ومجموعة من زملائه باستخدام التعلم الآلي لتحليل أكثر من 112 مليون تغريدة ب 64 لغة مختلفة مرتبطة بفيروس كورونا، ووجدوا أن حوالي 30% من هذه المنشورات من مصادر غير موثوقة حسب قواعد البيانات المتاحة للعامة مثل MediaBias/FactCheck.، إذ سبقت الأخبار غير الموثوقة وذات الجودة المنخفضة وصول الوباء مما عرّض الدول لسلوكيات اجتماعية غير عقلانية وتهديدات خطيرة لنظام الصحة العام. وتتبع دي دومينيكو وفريقه مستوى المعلومات المضللة المتزايدة في بعض البلدان التي انخفض فيها المستوى بعد تقدم الوباء، والبلدان التي انخفضت فيها نسبة المعلومات المغلوطة عن الوباء التي ساعد بعض القادة المحليين في إيقافها، فعلى سبيل المثال: وضعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل - الحاصلة على دكتوراة في كيمياء الكم - ثقتها في مجموعة من الخبراء المؤهلين واعتمدت عليهم في مصدر المعلومة إلى أن كسبت ثقة الأمة، وفي المقابل نجد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يحذوا حذوها.

أدت هذه الجائحة إلى زيادة التركيز على العلوم على الرغم من مفارقات ارتبطت بإرباك ثقة العامة في العلوم خاصة بين أولئك الذين لا يفهمون طبيعة الإجماع الغير خطي في بناء البحث العلمي. ويمكن اليوم دحض المعلومات الصادرة عن خبراء بارزين بأحداث الغد، ولكن هذا لا يعد نقصًأ في العلم وإنما هذه هي الطريقة التي يسير عليها العلم، فالنماذج الوبائية تُشبه النماذج المناخية، فهي عبارة عن أدوات رياضية مصممة للتنبؤ باحتماليات نتائج معينة بناءً على مجموعة شروط وافتراضات محددة (مع أشرطة كبيرة للأخطاء المحتملة)، وهذه النماذج والتوقعات العلمية لا تُشبه كرة التكهّن الكريستالية.

أجاب عالم الفيروسات كريستيان دروستن عندما سُئل من صحيفة الغارديان عما يبقيه مستيقظًا ليلًا، أجاب بما يسميه "التناقض الوقائي" بمعنى أنه إذا نجح التباعد الاجتماعي واستوى منحنى انتشار الفيروس، سيطرح الناس هذا السؤال: لماذا أُغلقت الشركات والأعمال؟ لماذا بالغنا في ردة الفعل؟ وهذه حجة عادة يستخدمها مناهضو التطيعم حيث إنهم يزعمون أن معدلات الإصابة المنخفضة للأمراض التي يتم تطعيمها هي دليل على أن اللقاح لم يكن ضروريًا منذ البداية، فلو نجحت جهود التخفيف وسُبل الوقاية فإن النتيجة ستظهر على أننا لن نتعرض للمرض، وعدم التعرض للمرض هي الحالة التي كنا عليها قبل اتخاذ الإجراءات الوقائية أيضًا، لذلك سيبدو وكأن العلم لم يضف لنا شيئًا! إذا نجح العلم في إيقاف انتشار الفيروس وتقليل ضحاياه فهل سينعكس هذا بشكل سلبي على صورة العلم في نظر العامة؟

تعد الثقة بالعلم والتعاون العالمي عنصرين أساسيين للتخفيف من حدة تفشي فيروس كوفيد19 ومنع ظهور أوبئة مستقبلية، لذا فإن قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية إلى جانب عزل القرارات السياسية أمر غير محبذ؛ لأنه سيؤثر على العلاقات مع الحلفاء وسيضعف سلسلة الإمدادت الطبية ويعرض أنظمة الإنذار الوبائي المبكر للخطر، كما تهدد تحليلات نظرية المؤامرة والمكائد السياسية الناتجة عن هذا الوباء العلاقات بين أمريكا والصين، وتهدد تأثير أمريكا في الخارج في وقت يحتاج فيه العالم إلى التعاون في مجال البحث العلمي للتعامل مع الفيروس الجديد.

كتبه: مارك زيمر

ترجمة: فاخرة يحيى

https://www.the-scientist.com/reading-frames/opinion-science-in-a-time-of-crisis-67761

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي