المحرر الأدبي .. المطلوب الغائب

 

     "المحرر أشبه بالآلة التي تنحت جذع الشجرة وتجعل منه قطعة خشبية ذات شكل جميل وجذاب" هكذا يصف الكاتب هشام أنس المحرر الأدبي، بينما قد يعتبره بعضهم المقلاع الذي يجتث الشجرة من جذورها أو يُحدث فيها تجاويف وتشوهات تجعل التعرف عليها صعبا. فمن هو المحرر الأدبي؟ وما هي مهامه؟ وماهو الحد الفاصل بين مهمته الوظيفية وذائقته الشخصية؟ وما سبب غياب المحرر الأدبي عن دور نشرنا العربية؟ آلكُتّاب هم الملومون أم دور النشر؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على مجموعة من الكُتّاب والناشرين والمهتمين.

في البدء سألنا  الناقد والناشر الكويتي فهد الهندال – مدير دار الفراشة – عن المحرر الأدبي فقال: "المحرر الأدبي كاتب متخصص ويعتبر مدربا في الكتابة الإبداعية، يمتلك ناصية اللغة ومعايير التكنيك، يقدم النصح للكاتب ويقيم مع النص علاقة تجاور لا تبتعد عن مقاصد الكاتب لكونها المرجع الأول للنص؛ فالمحرر يعيد تشكيل النص أدبيا على مستوى اللفظ والمعنى والتكنيك".

 أما حمود الشكيلي - الكاتب ومدير دار نثر العمانية - فأجاب: "المحرر الأدبي هو القارئ الحاذق الفطن، القادر على رؤية ما لم يره الكاتب، المبحر في النص من زوايا مختلفة مفقودة مضيعة، مهملة في اللاوعي أثناء الكتابة. ومهمته تكمن في لفت عناية الكاتب إلى ما لم ينتبه إليه، وقراءة ما لم يقله النص. قوته تكمن في الإشارة إلى مواطن الضعف، الخلل، الاهتزاز. ومن المهم في كل هذا أن يكون المحرر مولعا بما يقوم به، وما يقرأه أيضا، ومؤمنا برسالته في إضافة جمال آخر لجمال النص".

بينما يقول الناشر المصري رضا عوض – مدير دار رؤية – "إن المحرِّر الأدبي هو الشخص الوحيد الذي لديه الحق في صياغة الجملة من حيث الوزن والإيقاع واللغة الموسيقية، وإضفاء روح النص على العمل الذي يشتغل عليه، لذا عليه أن يكون على دراية بالثقافة العربية والثقافات الأخرى في شتى مجالات المعرفة ونتاجاتها المختلفة؛ حتى يستطيع أن يتعايش مع النص الموجود أمامه ويثريه من ذائقته الإبداعية والثقافية، فضلاً عن إلمام واسع بقواعد النحو والصرف والبيان والبلاغة العربية".

وحول مؤهلاته قالت الناشرة الدكتورة فاطمة البودي – مديرة دار العين – "إنه يتطلب في المحرر الأدبي أن يكون واسع الثقافة، ويملك لغة جيدة، وأن يكون متمكنا بحيث يستطيع أن يرى نقاط القوة في العمل الأدبي فيطلب من الكاتب تعزيزها، أو يقترح إضافة توضيحية أو يقترح الحذف في مواضع الإسهاب، كما أنه من الضروري أن يتحلى بذائقة أدبية رفيعة المستوى".

وعن الفرق بين المحرر الأدبي والمدقق اللغوي قال الكاتب والمحرر العماني سليمان المعمري: "تنحصر مهمة المراجع اللغوي في مراجعة الأخطاء اللغوية والإملائية وإعادة صياغة بعض العبارات التي تعاني من ركاكة لغوية، أو تنبيه المؤلف إليها لإعادة كتابتها من جديد. أما المحرر الأدبي فمهمته أكثر  شمولا؛ فهو ينظر بتمعن إلى المحتوى الكلي للكتاب، ما الذي ينقصه ليكون أفضل مما بدا في صيغة المؤلِّف النهائية، ما هي الفقرات أو الفصول الزائدة التي ينبغي على المؤلف حذفها لينقذ كتابه من الحشو والترهّل. وماذا ينقصه من فصول أو فقرات ليكون مُلِمًّا بجميع أطراف الموضوع الذي يناقشه. وفي حالة كون الكتاب رواية فإن المحرر ينظر إلى الحبكة الأدبية ومدى إتقانها من قِبَل المؤلف، وإلى أي مدى نجح في رسم شخصياتِه بحيث يمكن تصديقها من القارئ، وإلى مفتتح الرواية إلى أي مدى هو قادر على جذب القارئ من البداية، وإلى خاتمتها إلى أي درجة هي مقنعة ومتساوقة مع المسار العام للأحداث، كما ينبهه إلى الفقرات التقريرية أو الخطابية التي تُضعف الرواية .. الخ. إن المحرر الأدبي  في هذه الحالة هو أول قارئ لكتاب المؤلف، ولذا ينبغي منه ألا يكون مجرد قارئ عادي، بل قارئٌ نوعيٌّ نموذجي".

أما حمود الشكيلي فيقول: "الفرق يكمن بين المحرر الأدبي والمراجع اللغوي، الأول يهتم بالنص بصفته فكرة قبل الوجود، وفكرة في الوجود، قبل الميلاد وبعده، فهو يعمل على مستوى تحسين الفكرة وتجميلها، بينما المراجع اللغوي يشتغل على بناء النص باعتباره جملا في فقرات، يحسن الصياغة، يزيح الأخطاء بتجويدها على المستوى اللغة إملاء ونحوا صرفا ودلالة، معجما لمبنى وصورة لمعنى. هذا هو الفرق بينهما، وبالدربة والخبرة يمكن للمحرر والمراجع أن يلتقيا في شخص واحد".


وعلى الرغم من أهمية المحرر الأدبي إلا أن وجوده في دور النشر العربية يكاد يكون نادرا، فلمَ هذا الغياب، فتوجهنا بالسؤال لفاطمة البودي التي قالت: "إن العائق المادي قد يكون أحد الأسباب نظرا لكلفته العالية؛ فهو موظف بمؤهلات عالية، ولكن هذا ليس سببا وحيدا، بل إن المشكلة غالبا ما تكون لدى الكاتب نفسه، حيث يرفض كثير من الكتاب – خاصة الشعراء والروائيين – الأخذ برأي المحرر الأدبي معتبرين ذلك تدخلا غير مقبول منه. ولمحاولتها تجنب هذا المأزق تفضّل دور النشر الاستغناء عن المحرر الأدبي". ويضيف فهد الهندال عاملا آخر وهو استعجال بعض الكتاب في نشر كتبهم لتدارك مواعيد معارض الكتاب والجوائز على حساب جودة العمل. أما رضا عوض فيقول: "للأسف الشديد، إن آخر ما يفكر فيه الناشر العربي هو المُحرِّر الأدبي، إذا ما فَكَّر  في صناعة الكتب وإنتاجها؛ لأن الناشر في لغتنا لا يمتلك الوعي الثقافي بالدور الذي يقوم به المحرِّر الأدبي".

 

وتساءلنا عمن يعوّل عليه الكاتب العربي قبل نشر كتابه، فاتفق غالبية من شاركوا في التحقيق على أن الأصدقاء من الكتاب هم الأنسب لتقديم الملاحظات وإبداء الرأي، ولكن سليمان المعمري يضع شروطا يجب أن يتصف بها هؤلاء الأصدقاء حتى يكونوا مؤهلين لهذه المهمة فيقول: "بشرط أن يكون هؤلاء الأصدقاء صادقين معه، بحيث لا يجاملونه ويتغاضون عن هنات كتابه بحجة الحفاظ على هذه الصداقة، وهذا بدوره يتطلب شرطاً ثانيا: أن يكون المؤلف من النوع المتقبّل للنقد الباحث عن مثالب كتابته قبل مناقبها، أما الشرط الثالث فهو أن يكون هؤلاء الأصدقاء من أولئك القراء الذين يمتلكون بعض القدرات النقدية، القادرين على التقاط فكرة الكتاب والانتباه لنقاطه الإيجابية والسلبية. لكن هذا الشرط الأخير لا يمنع أن يستمزج المؤلف أيضًا آراء قراء آخرين غير متخصصين في النقد، وذلك لكي تكتمل الصورة لديه عن كتابه".

وفي مقالة في صحيفة القدس العربي نُشرت في مايو 2016 يبدي الناقد السعودي محمد العباس رأيه في سبب عزوف بعض الكتاب العرب عن الرجوع إلى المحرر الأدبي إذ يقول: "تتأخر مسألة تجذير الوعي بأهمية المحرر الأدبي عربيا، ربما لأن الكاتب العربي ما زال يعيش تحت وطأة إحساسه بعبقريته، ومفهوم التحرير الأدبي عنده لا يتجاوز ما أجراه طه حسين على رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، حيث شكلت تلك الحالة حجة للمتنازلين عن المحرر الأدبي، ولذلك يعتقد معظم الأدباء العرب أن تمرير نصوصهم على أصدقائهم يعفيهم من مهمة تحريرها الاحترافي، وهذا هو ما يفسر كم الأخطاء المعرفية والفنية في معظم الكتب العربية".

ولا يذهب سليمان المعمري بعيدا عندما يقول: "لأنهم لا يدركون أهمية هذا المحرر من جهة. ومن جهة ثانية لأنهم ينظرون إلى كتابتهم على أنها "قدس الأقداس الذي لا يمس". وهذا غباء منهم بالتأكيد. فليس هناك كاتب واحد في العالم – مهما بلغت براعته وتمكنه من أدواته- يستطيع الاستغناء عن المحرر الأدبي. وثمة سبب ثالث هو  أن دور "المحرر الأدبي" لم يترسخ بعد في الثقافة العربية، ولا توليه دور النشر العربية كبير اهتمام (باستثناء دور نشر قليلة)، ولذلك لا يشعر المؤلف بوجوده، فكيف سيشعر بأهميته".

ويذهب الناشر رضا عوض إلى ما أسماه (الخوف على الأسلوب) في تعليل سبب رفض بعض الكتاب الاستعانة بمحرر أدبي، يقول: "هناك فئة قليلة جداً من المبدعين لا يرغبون في التعامل مع المحرِّر الأدبي، وهم يُعدَّون من المفكرين والعلماء والأدباء والمؤلفين الكبار، خوفًا من التدخل في أسلوبهم والتلاعب بطريقتهم في التعبير، وحفاظًا على النصوص التي كتبوها من التحريف والحذف والإضافة، وهي نصوص يتعاملون معها بقداسة خاصة".

ويشاركنا المعمري تجربته في التحرير لكتب الأصدقاء فيقول: "حررتُ كتبًا لكثير من الأصدقاء، وتوصلتُ إلى هذه القناعة: كلما كان المؤلف كاتباً بارعاً متمكناً من أدواته كان أكثر استجابة لملاحظاتي التحريرية وفرِحًا بها. والعكس صحيح. عندما يكون الكاتب مبتدئاً فهو إما أن يرفض ملاحظاتي، وإما أن يتقبلها على مضض. مع العلم أنني أشدد دائما أن ملاحظاتي مجرد آراء غير مُلزِمة، وأنني لا أعتبر نفسي محررا محترفا، وإنما مجرد قارئ يحاول أن يقرأ الكتاب بعين أخرى".  

أما تجربة الناشر رضا عوض فقد كانت مؤثرة في تقرير مصير أحد الكتب وكاتبه، يقول: "وصلنا كتاب قيّم من حيث مادته وعنوانه وجِدة موضوعه، وكذلك تعطش سوق الكتب العربية إلى تلك الموضوعات التنويرية، ولكن تعيب النص سلاسة الجملة وضعف التركيب اللغوي والخلل في  بعض المصادر التاريخية؛ وركاكة التعبير الأدبي؛ لذا قمنا باستدعاء أحد أصدقائنا من العارفين بدور المحرِّر الأدبي والمدركين لوظيفته، وكان جُلَّ همه القضايا التنويرية بالإضافة إلى أنه يمتلك ذاكرة معرفية  تنويرية لا مثيل لها، كما أن لديه ذخيرة من الكتب التي انشغلت بهذه القضايا. وقد انقض على النص بدوره ليُعيد تحريره في جُملٍ رشيقة سلسة  واضحة المفردات، وقام بتوثيق ومراجعة المصادر الأساسية التي اعتمد عليها المؤلف الأصلي والبحث في مصادر أخرى متعلقة بالموضوع،  مع الحفاظ على بنية النص التاريخية والفنية والمعرفية؛ فكانت النتيجة  كتاباً جديراً بالقراءة، مما أسهم في ترويجه ووصوله للقارئ بشكل يليق بقيمة إصدارات المكتبة التنويرية".

وعن مستقبل صناعة التحرير الأدبي في العالم العربي يقول محمد العباس في حوار له في العدد الثمانين من مجلة الفلق: "دور المحرر الأدبي يرتبط مباشرةً بتجويد العمل بحرفية العمل الذي تقدمه دور النشر لذا أصبح لزاماً عليها تبني هذا الإجراء لتجويد العمل خاصة أننا نشهد حالة من الفيضان الروائي، وهو الأمر الذي يخل بالإنتاج الروائي". ويرى الناشر فهد الهندال "أن ما نحتاجه من أجل صناعة تحرير أدبي هو أن تتوافق رؤية الناشر والكاتب معا في أهمية نضوج العمل، مما يتطلب عينا ثالثا مشاركة في العمل، وهو ما يعني تعيين شخص لذلك وتخصيص ساعات من العمل الدؤوب والتفرغ حتى يخرج العمل منسجما مع رؤية الكاتب والناشر". 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي