استطلاع: جائزة نوبل للأدب..فوز الرواية ومعايير الاختيار

 

    

   تعد جائزة نوبل بكافة فئاتها من أرفع الجوائز العالمية العريقة، وبالإضافة لكونها لفتة تقدير وامتنان فهي نافذة تعريفية وترويجية للمنجز المستحق. وفي فئة الأدب ومنذ 1901 منحت الجائزة لعدد من الروائيين والشعراء والكتاب المسرحيين حول العالم. وقد يلاحظ المتتبع للجائزة أن معظم جوائز نوبل في الأدب في السنوات الأخيرة ذهبت لروائيين تحديدا وآخرها فوز الروائي اليمني الأصل عبدالرزاق قرنح.

المرصد الثقافي استطلع رأي مجموعة من المهتمين والكتاب لرصد أسباب فوز الرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية بالجائزة مؤخرا، بالإضافة لدور الجائزة في التعريف بالكاتب وأعماله، ومعايير اختيار الأدباء في هذا الجنس الأدبي تحديدا في السنوات الأخيرة.

البداية كانت مع الناقد المصري الدكتور محمد حسنين الذي قال:" يميل عدد وافر من النقاد ومنظري الأدب إلى وصف عصرنا بأنه عصر الرواية، أو عصر النوع الروائي بمصطلح أكثر حيادا من الوجهة النقدية، فتتبع جذور الرواية دال على صعودها وانتشارها وقدرتها على أن تكون ديوانا وشاهدا على عصر الحداثة وما بعدها. ومنطق الصعود هنا، له أساسه النوعي بوصفها ظاهرة داخل خريطة التحول الدوري للأنواع الأدبية، فلا يعني ذلك غمط الشعر حقه في الوجود ولا المصادرة على تطوره وفرادته. ولعل ناقدا موضوعيا، متأملا في تاريخ الآداب وتحولات الأنواع يلحظ ذلك الصراع الذي شهدته منظومة الشعر والنثر قديما من جدل وتبادل للمواقع بين الشاعر والخطيب، والكاتب والشاعر في دورات متعاقبة حتمتها ظروف تاريخية وثقافية بل ووسائطية في الأساس بين الشفوي والكتابي."

واضاف :" ومن هنا فإن ما ينبغي الانتباه إليه هو حقيقة دورية التحولات الإجناسية، ما دام تاريخ كل نوعٍ يشهد على صعوده تارةً، أو هبوطه تارة أخرى، على حساب غيره من الأنواع؛ فقد يسود نوع ما في فترة تاريخية ويكون الأكثر أهمية من غيره، أما ما يتصل بقيمته الأدبية، فينبغي أن تضبط في مواجهة بعض الأشياء الأخرى"

 ويرى الدكتور حسنين أن صعود الرواية، وحصدها للجوائز هو أمر طبيعي في عصر "السرد" معقبا: " إن توسيع مجال النظرة على الأدب ليس من شأنه ترسيخ مبدأ هيمنة النوع الروائي فحسب، بل في ظني إنه لكاشف عن أرخبيل واسع تحت تلك النظرة، يكشف عن قارة متكاملة بل مملكة مترامية الأطراف لم نولها نظرة مدققة. ذلك أننا لا نعيش عصر الرواية حصرا؛ بل نعيش عصر "السرد" بكافة أشكاله وأنواعه، أو بعبارة أخرى إن الجنس السردي هو المملكة الأدبية التي نعيش في كنفها، وتجري علينا قوانينه الجمالية وظواهره الإبداعية والجمالية. فالمشهد الأدبي لا يمكن تصوره دون الصعود الواضح للقصة القصيرة ومزاحمتها للنوع الروائي بل انفجار ما يسمى الآن بالقصة القصيرة جدا (ق.ق.ج)، والحمى الإبداعية لأنواع السيرة الذاتية، والتخييل الذاتي، وكتابة اليوميات والمذكرات..."

أما الناقد البحريني الدكتور فهد حسين فيطوف بنا في تاريخ الجائزة وبداياتها مؤكدا على تنوع حقول الأدب التي استهدفتها منذ بدايتها قائلا:" في الحقيقة ومهما قيل عن الجائزة إيجابًا أم سلبًا، فإن ظهورها لم يكن منطلقًا من سلطة سياسية أو مكانية بقدر وجودها على أرض الواقع المعيش في سياق الثقافة والعلم والآداب والفنون، وهذا ما أعطاها المكانة المرموقة واللائقة بها منذ تأسيسها حتى يومنا هذا. وحين تؤكد أن معظم الفائزين في حقل الأدب هم روائيون، وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن قبل الحديث عن هذا الحقل واستحقاقه، فإن الجائزة التي تقدمها مجموعة مؤسسات أكاديمية وعلمية سويدية ذهبت إلى شعراء منذ تأسيسها، حيث بدأت الاحتفال بالدورة الأولى للجائزة التي شملت بعض الحقول العلمية والأدبية، في العام 1901، وفي الوقت الذي يرى المراقبون أن حظوظ الروائيين أكبر بكثير من الشعراء والنقاد، فإن هناك الشاعرة لويز جلوك الأمريكية التي فازت بالجائزة في العام 2020، وحصلها المغني بوب ديلان في العام 2016، وأعتقد هذه أول مرة يدخل فيها الفن والموسيقا ليكون ضمن حقل الأدب. وكما أذكر أن أول من حصل على جائزة نوبل في حقل الآداب هو الشاعر الفرنسي رينيه برويدوم في العام 1901، كما حصلت القاصة الكندية آليس مونرو على الجائزة في العام 2013."

ويتفق فهد حسين مع الدكتورمحمد حسنين في دور الرواية وتأثيرها الكبير في عالم الأدب حيث يقول: "ربما يعود ذلك إلى ما تحظى به الرواية في عصرنا هذا من مكانة ثقافية وأدبية فاقت في انتشارها وتلقيها بقية الأجناس الأدبية الأخرى كالشعر والقصة والمسرح، بل حاليًا هناك العديد من الأعمال الفنية والمسرحية والسينمائية قائمة على الأعمال الروائية، كما أن الرواية لم تعد كالسابق، تسجيل حكايات ومغامرات وفروسية وعلاقات عاطفية، إنما الرواية اليوم عالم مختلف في بنائه وتركيبه وتشييد عمرانه المتكئ على أعمدة راسخة متينة تتمثل في مرجعيات مهمة لكاتب الرواية، فهي عالم إنسان مواز للعالم الحقيقي الذي يعيشه الإنسان، الرواية اليوم حاملة بين دفتيها أعراف المجتمع، والثقافة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والحب والصراعات والهويات والديانات، وكل المعارف التي يصعب على حقل الشعر أو المسرح أو القصة أو التراث احتضانها" 

ومدللا على أهمية الرواية كجنس أدبي يحظى باهتمام خاص يذكر: " لو ابتعدنا بعض الشيء عن جائزة نوبل، ونظرنا إلى الجوائز الأخرى فسنقف على عدد منها مهتمة بالرواية لا غيرها، ولنأخذ منطقتنا الخليجية، صحيح أن هناك جوائز تهتم بالأدب عامة كجائزة السلطان قابوس، وجائزة الشيخ زايد، وجائزة العويس، فهناك جوائز محصورة في الرواية فقط، مثل: جائزة البوكر، وجائزة كتارا التي جاءت بجائزة أخرى للنقد، وجائزة عجمان، وجائزة نجيب محفوظ، وغيرها، ومهما كان الأمر فالاهتمام بالرواية ظاهرة صحية، ولكن لا ينبغي تجاهل الأجناس الأدبية الأخرى" .

وترى الروائية الإماراتية ريم الكمالي أن: "الرواية والقصة والشعر.. كلها أدب، وفي كل حقبة يبرز نوع من هذه الأنواع وينتشر، فلا تفسير سوى إيقاع المفاهيم وأمزجتها وانتشارها، وأعتقد أن لعبة الأدب الإنساني اليوم متقدمة في الرواية".

وتأكيدا على أهمية الرواية وتعليلا لفوزها المتكرر مؤخرا يقول الناقد العراقي علي كاظم داود :"لم يعد خافيًا أن السرد عمومًا، والرواية خصوصا، قد بات ديوان البشرية في العصر الحديث، وسِجِل أحداثها ووقائعها. وقد تقدمت الرواية كثيرًا على الفنون الأدبية الأخرى، وسعت إلى احتوائها وتمثيلها واستثمارها لإثبات سيادتها واستحقاقها وجدارتها بمقام الصدارة الذي حظيت به. أما على مستوى المضامين فقد كانت المتون الروائية ساحة حامية لاشتباك الأفكار والإيديولوجيات والمعتقدات، وشهدت تمثيل الموضوعات الكبرى والقضايا الإنسانية، وطرحت للنقاش، على سبيل التمثيل السردي، أهم ما تعيشه المجتمعات الإنسانية والأفراد من مشكلات ومآسٍ"

كما سألنا في هذا الاستطلاع ما إذا كان فوز روائي - غير معروف - بالجائزة حافزا لقراءة أدب جديد، فأجابت الروائية ريم الكمالي أن الجوائز المعروفة تحفز على القراءة، مثل العقود الماضية التي عرفنا فيها أدباء كبار من خلال الجائزة وغيرها، ويجيب الناقد علي كاظم داود برأي مشابه فهو يجد أن من وظائف الجوائز المهمة التعريف بالكاتب ونتاجه الأدبي، وتوسيع نطاق انتشاره وترجمته، حتى وإن كان معروفًا قبلها، فضلًا عن تثمين إبداعه بطبيعة الحال، وهذا يمثل دافعًا مهمًا للقراء لاكتشاف عوالمه الأدبية، ورؤيته للحياة والواقع والإنسان، والبحث في أسرار لغته وأسلوبه، وربما دراستها وتسليط الضوء عليها؛ لمواكبة الحدث الثقافي المستجد المتمثل في نيله الجائزة. أما الناقد الدكتور فهد حسين فلا يرى الفوز بالجائزة سببا كافيا لقراءة العمل الفائز؛ مبررا ذلك بقوله: "أنا شخصيًا لست مشدودًا لخبر فوز هذا أو ذاك لأذهب مسرعًا أبحث عن نتاج من فاز، بل أسعى دائمًا ضمن برنامجي القرائي الذي أرسمه بداية كل عام ميلادي بعد مراجعة كاملة لما قرأت ونوعه وقيمته وعدده، وما ينبغي علي فعله من قراءة وكتابة وتحليل وإعداد أورق بحثية ونقدية، أو العمل على التأليف. من هنا أجد أن الانشغال بالجوائز وأصحابها وكتبهم قد يأخذك عن هدفك ومسارك الذي ترسمه أو رسمته في الأصل، لكن هذا لا يعني الابتعاد عن هذه الظاهر الثقافية، أوعدم التفاعل مع الحدث الذي تتناوله الصحافة والإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، فمن باب التطفل ترغب في الاستطلاع والوقوف على الحدث وما يدور في فلكه، بخاصة أنني مؤمن بأن ليس كل من فاز جدير بالفوز، لأن هناك اعتبارات كثيرة تدخل في عملية الفرز والتحكيم وإصدار القرار، غير أنك بوصفك مثقفًا أو أنك ترى في نفسك ذلك، أو تدّعي الثقافة، فعليك متابعة الأحداث الثقافية القريبة والبعيدة لما لها من دور مهم في بناء شخصية القارئ والمتابع والمهتم."

ويرى الدكتور محمد حسنين أن فوز رواية ما بجائزة رفيعة يحولنا من قراء إلى لجان تحكيم بطريقة ما، يقول: "عندما تعلن جائزة ما عن اسم روائي أو رواية فمن المؤكد أنها تخلق أفقا قرائيا، ومن المؤكد أننا بشكل أو آخر سنحاول اكتشاف هذا الفائز، وربما أكثر من ذلك، إننا عادة نجعل من أنفسنا ضمن لجنة تحكيم مضمرة حول المؤلف، لجنة نبتكرها تكون بمثابة المحكمة التي تراجع أحكاما مسبقة حول النص، ولهذا يُستهدف مباشرة صاحب كل عمل يفوز بالنقد القاسي؛ الذي على الرغم من فوزه بجائزة معتبرة عالميا إلا أنه في قفص الاتهام دائما!!"

 وفي هذا العام ذهبت جائزة نوبل في الأدب للروائي عبدالرزاق قرنح، الذي أثار الجدل لا لفوزه أو لأدبه بما أن رواياته العشر لم تترجم بعد إلى العربية، بل لكونه ذا أصول زنجبارية يمنية. لذا سألنا ما إذا كان لذلك دلالة ما. ويرى الناقد علي كاظم داود الحدث من منظور متفائل بقوله: "أبرز ما يعنيه فوز عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب أنه حدث مخيب تمامًا لأفق انتظار القارئ وتوقعاته، وليست هذه صفة سلبية، لمن له اطلاع بهذا المصطلح، وهو مصطلح معروف في نظرية التلقي. فالجائزة لم تذهب للأسماء الكبيرة المعروفة والراسخة في سماء الأدب، أي أنها لا تنظر إلى نجوم الأدب المرئية بوضوح بل تسعى لصناعة نجومها الخاصين بها. وهو أمر حدث كثيرًا في تاريخ جائزة نوبل"، ويستدرك: "لكن ما لا يمكن استبعاده أن ثمة مؤثرات كثيرة على لجان اختيار الفائز بالجائزة، منها على أقل التقادير: ضرورة معرفة أعضاء اللجان بالكاتب ونتاجه الأدبي، ولولا كتابة عبد الرزاق قرنح باللغة الإنكليزية وقربه من اللجان، لما تسنّى للجان معرفته.

أما الدكتور محمد حسنين فقال: "فوز قرنح يعني الكثير ولا يعني شيئا في آن! وتلك هي المفارقة التي ترسخها عملية فوزه، هل أقول إن هذه المفارقة ربما تكون متعمدة، أو ربما لدينا إساءة قراءة مسبقة على نحو ما يقول منظرو التفكيك!  فوزه لا يعني شيئا في سياق اللغة التي يكتب بها في ظل صفته التي ينتمي بها إلينا! فهو لا يكتب بالعربية ولا يذكر كثيرا هذا الانتماء!! لذا فخبر فوزه، مثل خبر فوز أي روائي غربي، لن يغير قناعتنا حول الأدب الغربي السائد. لكن هذه الأصول العربية والإفريقية تغرينا بمآلات هويتنا وقدرتها المتجددة على أن تبدع وتبتكر! وتلك هي المفارقة التي تبدو في خبر فوزه، فجزء من هويتنا مزروع في الفائز، لكنها هوية أدبية وثقافة لغة، تبدو بشكل أو بآخر مغايرة عنا. "

ويرى الناقد فهد حسين أننا في العالم العربي حصدنا أكثر من فائز لجائزة نوبل على مدار النصف الثاني من القرن العشرين والسنوات اللاحقة، وتشير أدبيات الجائزة إلى أن ثمانية عرب أو من أصول عربية قد نالوها، ففي عام 1960 حصل عليها طبيب إنجليزي من أصل لبناني مناصفة، وفي عام 1979 حصل أنور السادات على نوبل للسلام، وحصل عليها ياسر عرفات في عام 1994 مناصفة، كما حصل عليها إلياس جمس خوري الأمريكي من أصل لبناني في الكيمياء في عام 1990، وكذلك الدكتور المصري الكيميائي أحمد زويل في عام 1999، ومحمد البرادعي في عام 2005، ونالتها اليمنية توكل كرمان في عام 2011، أما في الأدب فقد نالها نجيب محفوظ في عام 1988، وعبدالرزاق قرنح في هذا العام 2021.

وعن كون الروائي قرنح غير معروف في العالم العربي يقول فهد حسين: "أما كونه كاتبًا مغمورًا بالنسبة إلى العرب عامة، فهذا أمر لا أستغربه البتة؛ لأن هناك  الكثير من المبدعين في شتى المعارف الإنسانية، من مختلف القارات والبلدان والمدن، لا نعرفهم. وهذا يعكس حالة تراجع كبير في عمليات التواصل الثقافي بين الثقافات والحضارات، فلا ينبغي الوقوف على أصول الكاتب أو ما يتعلق بهويته المكانية أو الدينية أو السياسية، بقدر ما ينبغي النظر فيما أنتجه وهل يستحق الفوز أم لا. وفي الوقت الذي نعتب على دور النشر ومؤسسات الترجمة، وعلى موطن أسرته (اليمن) التي لم تفكر في ترجمة بعض أعماله ونشرها بين الأقطار العربية، فإننا نستغرب الآن من تلك الأقلام التي تكتب عبر منصات التواصل الاجتماعي مركزة على أصله وانتمائه إلى العربية والمنطقة! فهل يغني هذا؟ وهل حصوله على نوبل بسبب أصله العربي؟ أو بسبب ما أنجزه من أعمال؟ 

ويختم: "ومع هذا سيكون فوزه مؤشرًا دقيقًا لدور النشر والترجمة التي فرض عليها فوزه إعادة رسم خططها وبرامجها ليس لترجمة أعماله فحسب، بل للبحث عن هؤلاء المبدعين المبثوثين والمنتشرين في كل بقاع الكرة الأرضية وترجمة بعض أعمالهم، لا الهرولة إلى الكتاب المشهورين لزيادة شهرتهم، وقبر المغمورين ودفنهم، والوقوف على أطلالهم حين تصحو الجوائز لتعطي أحدهم منحة منها. وهذا الفوز يؤكد أن هناك من الكتاب العرب ممن تؤهلهم أعمالهم الأدبية والثقافية لنيل جائزة نوبل للآداب، مثل: أمين معلوف، وأدونيس، وعبدالفتاح كليطيو، وعبدالكبير الخطيبي رحمه الله، وعبدالله العروي، وجورج طرابيشي، وحسن حنفي وغيرهم من المفكرين والنقاد الذين أثروا الساحة بالمعرفة والعلم والتنوير".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي