اصطياد سمكة الحكاية في عوالم حمود سعود القصصية

 

(المرأة العائدة من الغابة تغني- أحلام معلقة على جسر وادي عدي)

عوض اللويهي 

بيت الزبير 19/2/2022


هناك محددان رئيسان للدخول إلى عوالم حمود سعود السردية، هذان المحددان لا نستقيهما من خارج هذه العوالم السردية بل من الإشارات التي ترد في النصوص التي تتوزع في المجموعتين.

المحدد الأول: استقيناه من المقطع الذي يحمل رقم "1" من نص "ماء الحكاية" في مجموعة "المرأة العائدة من الغابة تغني" حيث يدور هذا المقطع حول مسافرَين يجلسان في مقهى بحي تاميل حيث يبدأ أحدهما بخشوع قراءة نصه لرفيقه الآخر: " بدأ يقرأ بخشوع الكلام، يمد الكلام أحيانا، يرفع صوته حينا، ويهمس حينا، والرجل الجالس قبالته ينصت للكلام المنساب، لعله يصيد أسماك المتعة من النص المنساب من فم صديقه" هذا الفعل القرائي داخل المقهى لم يكن محل اهتمام الشخص المقروء له بل اصطاد اهتمام السائح الكندي وزوجته اللذين كان ينصتان أيضا لما يُقرأ على مقربة منهما. الشاهد هنا هو فعل الاصطياد بالحكاية الذي يقوم به الرواة المتعددون (ضمير الغائب، ضمير المتكلم، ضمير المخاطب) لنصوص حمود سعود، فالسرد هنا طُعم يقدمه الكاتب إلى قارئه حيث يظن القارئ أنه في صدد الدخول إلى حكاية عادية ولكنه حين يقع في بحيرة السرد يحاول الوصول إلى الضفة الأخرى للكلام عله يعي الخديعة التي تم الإيقاع به فيها. وفعل الاصطياد لا يني يتكرر كذلك في موضعين من مجموعة "أحلام معلقة على جسر وادي عدي" ففي المقطع الثالث من نص "خوف" نقرأ: "السمكة الوحيدة النائمة تحت الجسر في وادي عدي خافت أن تجف البحيرة، البحيرة خافت أن يصطاد الصياد الأعمى السمكة النائمة، الصياد الأعمى خاف أن يعود إلى البيت دون طعام لأطفاله....." ص 71. وكذلك في نص "الطفل السمكة" ص 97.

        وهذا ما يقودنا إلى المحدد الثاني الذي على ضوئه علينا أن نعي الفخ الآخر الذي ينصبه الكاتب لقرائه، بل إن على القارئ أن يعي الإشارات التي ترد في بعض نصوص حمود سعود ومنها مثلا هذه الإشارة التي ترد في نص "القافلة وكلب الوالي" من مجموعة "المرأة العائدة من الغابة تغني": "علينا أن نبحث في جسد هذه الحكاية عن شاهد محايد يدلنا على نصف الحكاية" ص 47.  إن لجوء حمود سعود إلى شطر حكايات نصوصه إلى أنصاف متفرقة ومتعددة في أكثر من نص وفي أكثر من مجموعة يضعنا أمام دلالة ذلك وما الهدف من تكرار المعالجة في أكثر من موضع؟ في نص "مرثية الظل" نقرأ: "يطلق الطفل صرخته على العالم وعلى نفسه، قادما من سجن الرحم إلى سجن العالم، محاولا التحليق نحو أبعد من الحلم وأقرب من ماء الواقع" ص 8 (المرأة العائدة من الغابة تغني). فالإنسان الذي يتم تسريد ذاكرته هنا مشطور بين سجنين أو عالمين: سجن الرحم وسجن العالم، تحليق الحلم أو الغرق في ماء الواقع. ونجد معالجة أخرى للخروج من هذا المأزق في نص "موسم الضوء وحصاد الضجر": "الكائن الآن يتماهى مع صوت ميحد حمد، تتساقط عليه كل الذكريات والأحلام، يحاول قتل الضجر بكل خيالاته، يحاول الخروج من جدران الزنزانة الضيقة إلى منابع الحياة وضفاف الحكاية للتخفيف عن روحه من قلق المكان. يا لهشاسة الروح كيف يكسرها المكان. يحاول تأثيث المكان بالحكايات، يضع احتمالات كثيرة للحياة، يفكر في البشر، وفي سجن الحياة....". ص 62- 63 (المرأة العائدة من الغابة تغني). فسرد الحكايات هي الطريقة المثلى لتجاوز المآزق التي يمر بها الكائن، المآزق التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ مجددا، فالطريق إذن ليست بتلك السهولة والمفازة واسعة بين تأثيث المكان بالحكايات والوصول إلى منابع الحياة وضفاف الحكايات للتخفيف من شعور الكائن بانفصاله عن المكان وتوتر علاقته بالمحيط، فالسرد هنا جسر للتواصل مع القارئ كما أنه فعل إيناس وإنطاق لمكبوتات الكائنات السردية في أعمال حمود سعود.



ويبدو السرد في تلكم المجموعتين موزعا أو واقعا بين كماشتي الذاكرة والواقع، بين التشبث بالسرد عبر ضمير المتكلم وبين اللجوء إلى تقنيات مختلفة لأجل جعل الشخصيات تحضر برغم ما يحيط بها من غياب. كما نجد ذلك في نص "ملاك يرعى ضحكات الأطفال في المقبرة"، إذ جاء هذا النص مجزأ في عشرة مقاطع، فمن المقطع 1-8 ينساب السرد عن فدوى التي يحضر صوتها في الرسالة الصوتية الواتسبية مكتوبا في مفتتح النص، حيث إن المقاطع الثمانية تسرد وقائع غيابها ورحيلها عن العالم، وبالرغم من فجائعية هذا الغياب وثقله نجد فدوى حاضرة بقوة في المقطعين التاسع والعاشر من هذا النص متحدية غيابها متحدثة بضمير المتكلم.

كما نجد تقنية تمثيل المغيّب حاضرة كذلك في نص "الموت في الجبال والحياة في الذاكرة" الذي جاء مقسما على هيئة مقاطع، وكل مقطع يحمل حكاية صغيرة. في المقطع الأول من هذا النص نجد أن الحكاية تنتهي عند: " بركة الماء هي التي حرست روح المرأة في الليل"  ص 32 "المرأة العائدة من الغابة تغني". ولكن ثمة نصف آخر يخص الراوي هنا وهذا النصف يبدأ في السطر التالي لنهاية النصف الأول: "كل ما حدث بعد ذلك غير ضروري للحكاية غير المكتملة، ظلت ذكرى هذه المرأة نائمة في الذاكرة، لم أشاهد في حياتي أصفى وأنقى من عيني تلك الراحلة، فيهما صفاء الكون والينابيع والنجوم، بعد أكثر من عشرين عاما عندما فكرت في الكتابة عن هذه المرأة. لعدة أيام كنت أفكر في ذكرى الراحلة " ص 32-33. في هذا النصف يحضر صوت المرأة عبر الحلم: "جاءت لي في الحلم، خرجت من البركة النائمة في الجبال وقالت لي: أنا لم أمت بل حرست البركة من النسيان والجفاف. قالت هذه الجملة القصيرة، ورجعت واختفت في بركة الماء، غطست إلى قاع البركة إلى الأبد". هذا الحضور التي تجلى عبر الحلم منح المرأة الفرصة لأن تسجل صوتها وشهادتها عن موتها الغامض، ولكن صوتها منحنا الفرصة لنفهم أن ذلك الغياب هو في حقيقته حضور وإن كان بصورة غير مدركة لنا نحن البشر.

في المقطع 2 نجد أن صوت الطفل الغريق في بركة النجمية يحضر بصورة عرضية هكذا بعكس ما حدث في المقطع 1 و3 "باه يوم أكبر بسوق طايرة وأشلك أمريكا هناك يعالجوك" هذا المقول هو كسر حاد لجمود الغياب، حيث يرد في النص دون أن نعرف مصدره ولا نستطيع تحديد زمان ومحيط التلفظ الذي صاحبه.

نجد المقطع رقم 3 من النص نفسه يحمل عنوانا مستقلا "رسالة متأخرة لقبر امرأة في الجنوب"  35-36 في هذا المقطع رسالة يبعث بها شخص كان نزيلا للسجن "البحري المسقطي" إلى امرأة في قبرها في الجنوب، رجل وامرأة بينهما ذاكرة مشتركة في حياتهما قبل سجن الرجل الذي لم يمنعه وجوده في القبر من أن يبعث برسالته إلى المرأة التي تقاسم معها ذاكرة ثرية، وتأتي الرسالة لتجاوز أغلال سجن الحياة في "السجن البحري المسقطي" وسجن القبر، حيث إنه كان يسأل كل جنازة تمر عن المرأة المدفونة في الجنوب هل عادت من نزهة الموت. هذا السؤال الذي لم يجد له جوابا مثبتا في النص على الأقل فما بالنا في عالم الغياب.  

في المقطع 7 من نص "مرثية الظل" والمعنون بـ "ما تساقط من ذاكرة الطفل 1988": "في الطريق الممتد من القرية إلى المستشفى العسكري في العاصمة. يرقد هناك والد الطفل في فراشه الأبيض. لم يتذكر الطفل من تلك المرحلة سوى دهشته من الشمس التي تتبعه من خلف الجبال يطل برأسه من نافذة السيارة يراقب الشمس وهي تتلصص عليه وكان يسأل نفسه هل هي الشمس نفسها التي تشرق وتغرب في القرية؟ أم للعاصمة شمس أخرى؟ عندما أعطاه والده ورقة نقدية وقال له خذ آيس كريم. طوال طريق العودة يفكر الطفل في المصطلح الجديد. هو يعرف جيدا الكريم ولكنه لم يستوعب في تلك اللحظات معنى (آيس كريم). ص 15.  في نص "موسم الضوء وحصاد الضجر" ص 58-59 يعود حمود سعود إلى معالجة الموضوع ذاته ولكن عن طريق استخدام ضمير المتكلم المفرد "أنا".

في المقطع رقم 7 في نص "مقهى" من مجموعة المرأة العائدة من الغابة تغني نقرأ: "ترفع عينيك إلى حائط المقهى، في الحائط نبتت غابة وامرأة، المرأة التي تختبئ في الغابة لا تحنّ إلى شيء. فقط تحدق في وجوه العابرين على المقهى وتبتسم، وتبتسم فقط، دون أن تفكر في يوم ما أن تنزل من الغابة المعلقة في حائط المقهى لتجلس مع أي غريب، ودون أن يفكر أي عابر كذلك أن يدعو المرأة إلى أن تشرب القهوة معه. ومع ذلك ظلت المرأة تبتسم لكل العابرين على المقهى". ص 42-43. في مجموعة "أحلام معلقة على جسر وادي عدي" نجد هناك معالجة أخرى في نص "فضول امرأة"  للموضوع نفسه ولكن بطريقة مختلفة تماما: "المرأة الأفريقية في الصورة المعلقة على الجدار، تحمل فوق رأسها عذقا من الموز الأخضر، وعلى ظهرها تحمل طفلها. وتمسك بيدها اليسرى سلة مصنوعة من أشجار الغابة. بيدها اليمنى طفلتها. في الليل تنزل المرأة الأفريقية من الصورة المعلقة على جدار الصالة. تدخل المكتبة. تبدأ في البحث عن تاريخها أو عن كتاب تتسلى به. ذات ليلة وجدت طفلها يبكي وحيدا في الصالة. وكانت هي نائمة في مكتبتي، وعذق الموز وطفلتها ظلا في إطار الصورة. جاع طفلها، خرجت من الصالة دخلت المطبخ أعدت لطفلها وجبة سريعة وأعدت لنفسها قهوة ورجعت إلى إطار الصورة" ص 93.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي