سردية الأحلام والحالم

 (قراءة في المجموعة القصصية "أحلام معلّقة على جسر وادي عدي" لحمود سعود)

 د.مبارك الجابري

بيت الزبير 19/2/2022م


تقترح هذه الورقة قراءة لمجمل المجموعة القصصية مجتمعة، أي ليس بصفتها نصوصًا معزولة، وهو منحى في القراءة ما زلت أنتهجه كلما وجدت في المجموعات القصصية أو الشعرية ما يطلبه، مستفيدًا مما قدمه علم اجتماع النص، وقبله البنيوية التكوينية وما إليها من مدارس نقدية تنظر في "الكل" ولا ترى "الجزء" إلا مكونًا له، جريًا على ما استفادته من "هيغل"، ولست أحسب أن مجمل القراء معنيون بتفصيل هذا التوجه النقدي في ورقة يراد لها أن تكون مدخلًا يناقش الجميل في النص المقروء فيفتح آفاقهم لمسار مختلف في القراءة؛ ولذا فإني أكتفي بهذه الإشارة العابرة لتسويغ مسار القراءة في القادم، تاركًا للقارئ الحكم على علامات النصوص التي تتيح مسار التأويل الذي يحاول ملء البياضات.

    وقد اخترت لهذه الورقة عنوان (سردية الأحلام والحالم)؛ لأن القراءة ستوضح أن المجموعة تقدم سردية واحدة تنطبق على الأحلام والحالم، تبدأ من البزوغ؛ وصولًا إلى الانطفاء، اعتمادًا على علامات في العتبات والنصوص تُمكِّن من تتبع مسار السردية في الموضوعين معًا، بحيث تقدم المجموعة تحرّكًا للحالم مطابقًا لتحرّك أحلامه، وكأن لا تحرّك له واقعًا إلا في حيّز أحلامه التي تعزله لتكون حياة اختيارية داخل الحياة التي أُجبر عليها.

السارد/ الكاتب: جدلية الحضور والتخفي:

     قد لا يعتني القارئ العادي، غير محدد الأفق بالمعطيات النقدية، بالفارق الذي تفرضه بعض النقود بين الكاتب والسارد؛ ولذا يكون تأويله مفتوح الأفق للتعاطي معهما معًا كلما سوّغ له النص ذلك، مفيدًا من الثراء الذي يضفيه العالمان معًا على التأويل، بغض النظر عن صحة ذلك من عدمها، وهل سؤال الصحة ضروري في سياق التأويل؟!

    تفرض علينا بعض التوجهات النقدية عزلًا باتًّا بين الكيانين: الكاتب والسارد، وهي إذ تفعل ذلك تخفي عمدًا ما يمكن أن يتكشف في النص من الكاتب، فتحدث قطيعة مع واقعه بحرصها على خلوص النص للتخييل؛ لما يمكن لهذا التخييل أن يتيحه من فتح أفق التأويل بعيدًا عن تاريخية كيان الكاتب، ولكنها في الآن نفسه تمنع التأويل من الإفادة من هذه التاريخية بما يزيد ممكناته ووضوح علامات النص، أو يضفي على النص علامات تَعمّد الكاتب إخفاءها ليخلق متاهة التأويل، وهو الأمر الذي حاولت بعض المناهج النقدية الحديثة إصلاحه بإعادة الارتباط بين الكيانين (الكاتب/ السارد) بأدوات تتجاوز القراءات التاريخية، كما يمكن تتبع ذلك مثلًا في الدرس النقدي الذي ارتبط بالتوجه اليساري.

    تُمكّن تنظيرات العزل بين الكاتب والسارد الكاتبَ من الانفصال التام عن نصه وما ينتج عنه من تأويل ومساءلة للعلامات؛ ولذا فهي من هذه الجهة تتيح له أن ينطلق في النص متخففًا من قيود السلطة بأنواعها، كما التخفف من قيود الواقع ومنطقيته؛ ولذا ما فتئ النص الأدبي مجالًا لقول "ما لا ينقال" إذا استعرت مقولة النِّفري، وحينئذ يمارس الكاتب عبر سارده حريته باستراتيجيتين: التخييل، ومخاتلة اللغة، فأما الأولى فإنها تتيح له الانطلاق دون ارتباط بأي معطى واقعي، وأما الأخرى فهي تزوده بقدرة على الترميز والإضمار وأيقنة العلامات واللعب بالضمائر، فينتج عن كليهما خطاب متفلّت من القيود إلا قيود منطقيته، لا يمكن محاكمته إلا وفق هذه المنطقية التي تحميه من الواقع.

    أفتتح مسار القراءة بهذا حتى أقترح للقارئ أن يشق مسار تأويله في هذه المنطقة الملتبسة بين الواقعين، منتبهًا في سيره إلى الأرض الزلقة التي يُظهر النص فيها علاماته، حتى لا ينزاح بقراءته نحو تاريخية تسوغها العوالم التي يؤثث بها حمود سعود مجموعته القصصية، بما قد يتبدى فيها من شبه بالواقع، تؤججه أسماء الأماكن "الواقعية" التي يحرص على ذكرها عبر سارده، وحتى لا يظل في الآن نفسه منقطعًا تمامًا عما قد يأخذه من الواقع ليغني مسار تأويله بما تبرره علامات النص.

العنوان النص:

    يمثل العنوان "أحلامٌ معلقة على جسر وادي عدي" عتبة أولى مهمة للدخول إلى عوالم نصوص المجموعة، وقد أراد الكاتب أن يكون عنوانًا مُنشَأً لعنونة المجموعة، لا مستلًا من عنوانات النصوص فيها، ويقدم ذلك معلمًا أولّ لأهمية هذا العنوان في التعتيب للمجموعة، سواءً بأن يكون ملخصًا لمجمل مسير النصوص، أو بأن يكون علامة على محرّك التسريد في النصوص كما سيأتي.

    يتيح العنوان للقارئ تلقيه بوصفه نصًّا أول تتناسل عنه باقي نصوص المجموعة، مُجمِلًا لمسيرة الحلم التي ستُفصّلها النصوص عبر أحلامٍ متعددة، فهو يقدم علامتين مركزيتين: الأحلام، وجسر وادي عدي، ففي حين أن العلامة الأولى تمثل مركز التسريد الأهم في مجمل النصوص كما سنرى؛ تمثل العلامة الثانية الفضاء المكاني الأهم لمعظم النصوص، وتأتي العلامتان في تركيب يتيح مُكنة قراءته بوصفه نصًا مبنيًا على التصوير: تعليق الأحلام على جسر وادي عدي.

    يقدم التنكير في لفظة "أحلام" للكاتب غنى في خيارات التسريد بالحلم، كما أنه يقدم في الآن نفسه للقارئ غنى في التأويل يجعله قادرًا على قراءة الأحلام المصرح بها في النصوص، وتلك الأحلام التي يستبطنها خطاب المجموعة عبر أيديولوجيته التي يحاول إخفاءها، بوعي أو بغير وعي، ويضفي النعت بـ"التعليق" على هذه العلامة الأولى حكمًا يحرك التأويل نحو مساءلته.   

   تحتمل لفظة "معلقة" الواردة نعتًا للأحلام معنيين يمكن أن يحددا مسار تأويل القارئ للمجموعة، فإما أن يكون التعليق إنهاء للأحلام؛ بما يضفيه تركيب شبه الجملة عليه "على جسر وادي عدي"، وحينئذ تتجسد الأحلام مدلاة من على جسر وادي عدي، منهاة غير قابلة للتحقق، وإما أن يكون إيقافًا مؤقتًا لها، يجعلها مؤجلة التحقق إلى حين. وسيجد القارئ أن مساري التأويل هذين محتملان في مجمل سردية الأحلام، كما في سردية الحالم نفسه، وإن كانت هذه الورقة تقترح أحدهما كما سيبين لاحقًا.

     وبناء على احتمالي لفظة "التعليق" يمكن قراءة علامة "جسر وادي عدي" بوصفه وصلًا بين الحياة والموت، أو بوصفه وصلًا بين الحلم والواقع، وكما أنه يمكن له أن يكون جسرًا/ رمزًا بين عالمين وجوديين: الحلم/ الواقع، أو الحياة/ الموت؛ يمكن له أن يكون جسرًا/ واقعًا بين عالمين واقعيين لهما رمزيتها في الفضاء المكاني الذي تتشكل فيه النصوص: مسقط، والعامرات، وهو الأمر الذي تفتح الشهيةَ إليه الصورةُ التي اختيرت للغلاف: صورة جسر وادي عدي.

   بذا يقدم العنوان ما يشبه نصًّا أول يُعتِّب لنصوص المجموعة، يمكن الانطلاق في قراءته من مركزية الأحلام، كما يمكن الانطلاق فيها من مركزية حدث التعليق، وتتكفل صورة الغلاف بتأثيث باقي العلامات التي أخفاها التلفظ.

   تحيل علامة "الحلم" التي افتتح بها العنوان إلى معنيين ممكنين، بوصف الحلم دومًا هو خلاف الواقع؛ فيمكن تلقي هذه العلامة بوصفها دالة على حلم النائم، أو دالة على حلم اليقظة (التخيّل)، ويرد الحلمان في المجموعة في زمن من زمنين: الزمن الماضي/ التذكر، والزمن الحاضر/ السكون، في حين يكاد يغيب تمامًا، وأقول "يكاد" تحسبًا لأي مسار تأويلي قد يجد زمنًا مختلفًا، الزمن المستقبل/ الاستشراف، فالأحلام التي ترد في المجموعة، سواء أكانت حلم يقظة أو حلم نوم، إما أن تكون استذكارًا ممضًا لماض اختفى، أو نسجًا متخيلًا لواقع آني مخالف لما عليه الواقع المعيش، ففي نص (حارس حكاية مسقط) مثلًا يمكن الوقوف مرارًا على حلم الحارس الذي يستعيد ماضي بوابة مسقط، في حلم يقظة يمتد عدة صفحات؛ ليتحول لاحقًا إلى حلم نوم، في حين أنه يمكن بسهولة أن نتتبع في النص الأول مثلًا الزمن السكوني للحلم/ التخيّل، ولكلا طريقي تسريد الأحلام دلالة على المسار الخطابي الذي ينسج علاقة المجموعة بالواقع، بوصف الواقع دومًا واقعًا لا بد أن يُتَجاوز.

    أشير في هذا الموضع إلى أن التسريد غالبًا ما يعتمد الزمن السكوني للحلم، تارة على هيئة حلم لنائم، وتارات كثيرة على هيئة تخيل لعالم مواز تعيشه الشخصية أو السارد نفسه الذي يدخل عبر عدد من النصوص بخطاب المتكلم/ الشخصية، مصرّحًا بتخيله لشخصيات سرده، كما في نص (الأعمى الذي أبصر الحكاية) ص 62: "ويظهر الجد كذلك مرة أخرى في نص "مرثية أولى للظل" بأنه سارد للحكايات، وأن الحكايات أرعبت الطفل الصغير، ولم يذكر الطفل أن الجد كان وحيدًا، توفيت زوجته منذ زمن طويل، ...".

مركزية الحلم:

     تصرح المجموعة منذ عنوانها إذن بمركزية الحلم فيها، بصيغة جمع دالة على تعدد الأحلام واختلافها، فلكل نص من النصوص الطويلة فيها حلمه الذي يفتتح سرده، ويكون ذلك تارة بالتصريح بلفظ "الحلم" ومشتقاته؛ وتارة أخرى بانطلاق السرد نحو تذكر الماضي، أو تخيل حاضر مواز للواقع، فتكاد تخلو المجموعة من إقامة السرد على محض حكاية الواقع (واقع الحكاية)، حتى في النصوص التي تتبدى هكذا، كما في نص (حلمان) الذي يكرس علامة "الحلم" مرتين، مرة في العنوان، ومرة في الفقرة الأخيرة منه ص100: "لكل الكائنات أحلامها في هذه الحكاية"؛ ليوجه تلقي النص وفق مركزية الحلم في المجموعة؛ متجنبًا مزلق الواقع الذي قد يتوجه إليه بمدلول ملفوظ افتتاح النص ص99: "أمام بوابة مدارسهم الخاصة....".

    تنتظم نصوص المجموعة وفق هذا المسار، بوصف علامة "الحلم" دالة على التسريد، عدا بعض النصوص القصيرة التي وضعت آخر المجموعة، ويمكن بذلك أن نرى مُكنة التسريد التي يوفرها الحلم للسارد، وقصر النفس السردي حال اختفائه من النص، كما يمكن أيضًا أن نلحظ بسهولة تأجج مسار السرد حال ورود هذه العلامة أو ما يدل عليها، ففي نص (الأعمى الذي أبصر الحكاية) مثلًا يبدأ النص ساكنًا رتيبًا معتمدًا على محض الوصف، ثم يتحرك السرد انطلاقًا من تخيل الجد/ الشخصية ليتنامى مساره تباعًا وصولًا إلى آخر الحكاية ص64: "عندما تأكد السارد من نوم الجد في الحكاية نام هو كذلك.".

    تقدم المجموعة باعتمادها هذه المركزية خطابًا موازيًا للواقع، مختلفًا عنه، وأحيانًا نقيض له، بحيث يتبدى الواقع وفق هذا الخطاب غير ممكن العيش، غير ممكن التسريد، يؤثر السارد إقامة شخصياته وعوالمها بعيدًا عنه، مفصولة عن الإقامة فيه، سواء بالحلم أو بالتخيل؛ ولذا يستحيل واقع الشخصيات التي خلقها فيه ولم يجد لها مهربا عنه بالحلم أو بالتخيل إلى واقع ممض، فالطفل مثلًا في نص (وطن الطفل) ص101 يبكي وطنه المختزل في العَلَم الذي دهسته السيارات، وفي (الشجرة الضاحكة) ص105 يدفن ضحكة أمه الميتة ثم يعود إلى حضنها، وفي نص (جوع) ص107 يقدم واقع الفقر الذي يؤشر عليه منذ العنوان.

   نتج من اعتماد الحلم مركزًا عوالم حلمية مسرّدة يمكن لحظها عبر لغة النصوص في جملة من المظاهر:

-         تداخل الضمائر: حيث استحال تداخل الشخصيات وزوايا تكلمها في العالم الحلمي إلى تداخل في ضمائر النصوص أحيانًا؛ ولذا نقرأ مثلًا ضمير الغائب في النص الأول ص10:"حذَفَ الكلمات الثلاث الأولى...." الذي يتحول دونما منطقية خطابية إلى ضمير متكلم عقب بضعة أسطر: "فلماذا أُحمّل هذا النصَ الصغير...".

-         تغييب أدوات الربط: يلحظ القارئ بسهولة قلة ورود أدوات الربط في المجموعة، والاعتماد على مجرد علامات الترقيم، فتتبدى الجمل في هيئتها اللفظية مفصولة عن بعضها، تتجاور دون رابط علاماتي، معتمدة على ما ينشئه المعنى من روابط بينها، شأنها شأن الحلم تمامًا. نقرأ مثلًا ص21-22: "شبّت الخلافات بين القراصنة؛ البرتغاليون والفرس أرادوا أن يتقاسموا البحر والتاريخ والميناء. الهنود ذهبوا إلى مطرح وروي ليحتضنوا الأسواق ويمارسوا تجارتهم. أصحاب العمائم أعجبهم الكرسي والقلعة...".

-         تناسل المشاهد البصرية: يعتمد السارد على المشاهد البصرية في بناء سرده، كما في بناء الوصف، وتأتي المشاهد في كثير من الأحايين متتالية يتناسل بعضها من بعض، على هيئة مشاهد سينمائية تقود التأويل نحو الغايات التي وضعها الخطاب، فنقرأ مثلًا بنص (وطن الطفل) ص101: "في الصباح حمل الطفل العلَم، أخرجه من نافذة الحافلة المدرسية، قيل له إن الوطن هو العلم. حرّك يده الصغيرة، تراقصت ألوان وطنه الصغير تحت أشعة الشمس. سقط العلم في الشارع. دهست السيارات المسرعة وطن الطفل. ظل يبكي وطنه الصغير المدهوس في طابور الصباح"، فعدا ما يلحظ من تداخل بين المشاهَد والمسموع في الجملة الأخيرة (يبكي)، إضافة إلى المسموع في ملفوظ "قيل له.."؛ فإن عامة النص هو اعتماد على مشاهد بصرية يتناسل بعضها من بعض.

-         تداخل عالمي الواقع والحلم: يتعمد السارد في مواضع عدة التصريح بتداخل هذين العالمين في الحكاية؛ ليخلق تشويشًا ينتهج التشويش الحاصل في ذهن الحالم للتمييز بين عالمين لا يفرق بينهما سوى مدى يقين المرء بأنه في أحدهما دون الآخر. نقرأ مثلًا ص18  بعدما أورد السارد حكاية المرأة التي تنتظر العلاج الكيماوي: "أخذت المرأة تهز كتفه، قال في نفسه: مَن الميت ومَن المجنون في هذا الليل؟ لكنها لا تشبه المرأة التي تنتظر جلسة العلاج الكيماوي. بدأت تنشج وتقول له: لماذا مت؟ قال لها: لم أمت، أنا أمامك الآن. أغلق شاشة الحاسوب حتى لا يسمع الموتى والمجانين حواره مع المرأة الباكية، وحتى لا ترى جنازته في ليل المدينة..." ولنلحظ هنا مدلول ملفوظي "لماذا مت؟" و"أغلق شاشة.. حتى لا يسمع" بما فيهما من كسر لمنطقية الواقع وتداخل مع الحلم.

الأشجار: عتبة أخرى

    ما سبق كان مقاربة لمركزية الحلم في المجموعة؛ انطلاقًا مما فتحه عنوانها من مسار للتأويل، وما أثثه خطاب المجموعة وفق ما بان أعلاه؛ بيد أنه لا بد من الوقوف على عتبة أخرى مهمة اختار لها المؤلف أن تشغل فاتحة المجموعة قبل الولوج إلى نصوصها مباشرة. نقرأ فيها المقتطع الآتي لهرمان هسه:

"الأشجار معابد قدسية. من يعرف كيف يكلمها، من يعرف كيف يصغي إليها، يمكنه تعلّم الحقيقة، إنها لا تعظ بإلقاء التعاليم والوصايا، ولكنها تُبشّر، غير معنية بالتفاصيل، بالقانون الأقدم للحياة".

   من الصعب أن نفهم عند الانطلاق في قراءة النصوص دور هذه العتبة وما يمكن أن تتيحه للتأويل، وقد يبدو الأمر لأول وهلة محض تذكير لعلاقة المؤلف، ابن القرية الذي انتقل إلى المدينة، بالأشجار، وهو الأمر الذي حذرت عند انطلاقي في هذه الورقة من الوقوع في مزلق مماثل له أثناء التأويل، كما قد يبدو الأمر محض تعتيب لما سيجيء عبر النصوص من ذكر عابر للأشجار، وربما لا يكون الأمر في حقيقة وضعه حالما اختاره المؤلف أكثر من واحد من هذين أو كليهما معًا؛ بيد أن للخطاب منطقيته التي تتفلّت من قيد وعي المؤلف.

    ترد علامة "الشجرة" في عدة نصوص بالمجموعة لتأثيث المشاهد البصرية؛ بيد أنها ترد أحيانًا مقرونة بالحلم، حلم النائم أو حلم التخيل، وعندئذ يمكن المقارنة بين الحلم في حالتين مختلفتين تمامًا: حالة الحلم معزولًا عن علامة "الشجرة"، وحالة الحلم مقرونًا بها، فيتبدى الخطاب في الحالة الأولى في بنية اضطراب يمكن الاستدلال عليها عبر عدة دوال في سرديته، أما في الحالة الثانية فإنه يتبدى في بنية استقرار.

   نقرأ الأمثلة الآتية على الحلم معزولًا عن علامة "الشجرة":

-         قراصنة وادي عدي، ص15: "غفا قليلًا؛ وهو يفكر في بداية أخرى لنص "لماذا يضحكون؟"، في اللحظات التي غفا فيها، رأى في الحلم الموتى وهم يخرجون من المقبرة مطالبين أهل المدينة أن يتوقفوا عن مزاحمتهم."

-         قراصنة وادي عدي، ص19: "نام قليلًا، تغير مشهد المدينة والحلم، المجانين سلموا الوالي عريضة احتجاج شديدة اللهجة، وطالبوا بتغيير موقع المستشفى من هذه المدينة الضجرة إلى مدينة تزهر بالحياة."

-         حارس حكاية مسقط، ص39: "في نومه، رأى وجوهًا تطارده، وألسنة تهتف ضده، رأى جموع حفاة تمسك بالحجارة والعصي..."

ترد في الأمثلة أعلاه عدة دوال (مخططة) تخلق في الخطاب بنية اضطراب تجعل العالم الحلمي "كابوسًا"، سواء عبر الألفاظ الواصفة للشخصيات، أو عبر التسريد بالأفعال التي تؤديها هذه الشخصيات.

    أما في الحالة التي يرد فيها الحلم مقرونًا بعلامة "الشجرة"؛ فإننا نلحظ أن العالم الحلمي الذي نتأوله مختلف تمامًا. نقرأ مثلًا:

-         حارس حكاية مسقط، ص37: "رفع بصره قليلًا، ليتأمل السدرة، فرح لوجودها، فهي العلامة الوحيدة المتبقية في المكان الذي حرسه، تمنى لو يستطيع أن يعانقها. تمنى لو يستطيع أن يقطع منها عصا لكي يطرد الكوابيس والضجيج الذي يحاصره."

-         حرب، ص82: "نمتُ تحت ظل الشجرة، وفي الحلم رأيت أبي يغني في الجنوب، ورأيت امرأة تناديني لأتبعها، فتبعتها، كانت تقودني إلى النبع، وكنت أمشي خلفها في الطريق الطويل."

-         شجرة، ص83: "في أعلى الشجرة حطت طيور مهاجرة، ثم أخذت تغني للأطفال. وعندما ينام الرجل في الليل، يستيقظ الأطفال الموتى ويصعدون إلى أعلى الشجرة، ويرسلون رسائل حب إلى أمهاتهم مع الطيور المهاجرة."

   في المقتطع الأول يدخل السارد بالتأمل إلى بناء عالم حلمي تحدد انطلاقه لفظة "السدرة"، ويصرح منذ البدء بالمسار من خلال الملفوظ "فرح لوجودها"، ثم يصرح بالدور الأساس لهذه العلامة عبر مجمل خطاب المجموعة: طرد الكوابيس والضجيج.

   وفي المقتطع الثاني ينطلق العالم الحلمي أيضًا من علامة "الشجرة"، جاعلًا من هذا العالم مسارًا نحو "النبع" بما تكثفه هذه اللفظة من استقرار.

   وهو الانطلاق نفسه في المقتطع الأخير، وعلى الرغم من ورود مشهد الموتى الخارجين من قبورهم الذي رأينا شبيها له في المقتطع الأول الذي ضربته مثالًا على الحالة الأولى؛ إلا أن المشهد هنا يسير بالعالم الحلمي إلى بنية استقرار يضفيها عليه الملفوظ المخطط أعلاه.

   توضح هذه المقارنة بين الحالتين أن "الشجرة" في خطاب المجموعة علامة على الاستقرار، فترد العوالم الحلمية التي تنطلق منها بعيدة عن الاضطراب الذي تكرسه المشاهد الكابوسية التي دأبت المجموعة على تكريسها في تسريد الأحلام، وهو نقل لدور الشجرة من العالم الواقعي، عالم القرى، إلى عوالم الأحلام في النصوص، بما هي علامة على الظل، والاستقرار، والحماية من هجير الحياة، ويمكن لهذا أن يكشف لنا عما يستبطنه خطاب المجموعة من علاقة مضطربة مع المدينة، بما هي علامة على التصحر والفراغ الروحي، كما يمكن تتبع هذا عبر النصوص، وهو الأمر الذي نقرؤه صريحًا في (بريد الموتى) ص 45:

"أمامك غابة إسمنتية صغيرة، صنعتها حداثة مشوهة وعمال صرعهم صيف البلاد وجوع المنفى، في هذه الغابة الإسمنتية ترى جثثًا تجفف قلقلها على الشرفات، الشرفات التي لا تظل إلا على الضجر والفراغ وشوارع سوداء."

   وحينئذ تبرز "الشجرة" علامة على الماضي الحلمي، الماضي المفتوح على ممكنات الحياة؛ في حين تبرز "المدينة" وما يتصل بها من عوالم علامة على الحاضر المتوحش، واحتجاب العوالم الحلمية إلا على شكل كوابيس الموت والجوع والقمع والمنافي.

سردية الحالم/ السارد:

   قدم التحليل السابق سردية الأحلام التي بنتها النصوص، بما هي تارة أحلام موؤودة على أطراف التخيل أو النوم، وبما هي أحلام كابوسية تارة أخرى، وفي التارتين معًا كرس خطاب المجموعة عوالم مفصولة عن الواقع، تظهر السارد وشخصياته غير قادرين على عيش الواقع، مؤثرين العوالم الحلمية بما فيها.

   وعند النظر في عموم خطاب المجموعة يمكن لنا تتبع مسار سردية عامة أوسع للحالم، الذي هو هنا السارد نفسه، شبيهة بسردية الأحلام التي تتفشى عبر النصوص، تنطلق من أول نصوص المجموعة بافتتاح مسيرة السارد وأحلامه؛ لتنتهي في آخر نص بوأد الحلم والحالم معًا، بحيث يمكن تلقي نصوص المجموعة بوصفها نصًّا واحدًا، يُفتتح السرد فيها بالنص الأول الذي يصرح بانطلاق سرد الحالم لأحلامه ص9:

"نهض من السرير، بعد معارك طاحنة مع الأرق والتحديق في السقف... فتح شاشة الحاسوب، النافذة كانت مفتوحة، أصابعه فتحت نافذة الخيال..."

ليتبع ذلك جملة النصوص التي تتعدد فيها أحلامه وأحلام شخصياته (أحلام النوم أو اليقظة) بمسيرها المضني، إما بكابوسيتها وإما بوأدها واحدة تلو الأخرى، بما تكرسه عبر خطابها من عزلة عن الواقع، لتنتهي سردية هذا الحالم في النص الأخير ص132:

"قبل أن تغرب شمس جبال الحجر، كانت الجثة ممددة في الطين، وقبل أن يضع الطفلان وجهيهما في وسائد الدمع، كان الرجل الميت يكلم شخصياته التي كتب عنها نصوصًا ناقصة، كان يحدث جده الأعمى، ويمازح عامر بن محمد، ويغني مع الجندي الذي عاد من المعركة بيد واحدة ونصف ذاكرة."

فيستحيل الحالم بعودته إلى الواقع رجلًا ميتًا لا يتمكن من إكمال الحكاية، حكاية الأحلام، ولا يملك في حضوره الميت هذا سوى ترداد ما بقي في الذاكرة، ذاكرة النصوص، من بقايا الأحلام، وعندئذ لنا أن نؤكد ما تأولناه مما يستطبنه خطاب المجموعة من علاقة مضنية مع الواقع، بوصفه واقعًا غير ممكن للحياة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي