متاهات السرد وحساء السحر العجيب في رواية "لا يذكرون في مجاز" لهدى حمد

 



أحمد الحجري

بيت الزبير 22/8/2022

تنهض رواية هدى حمد " لا يُذكرون في مجاز" - الصادرة حديثا عن دار الآداب ببيروت - على حلم عجيب سيقود بطلة حكايتها "الزوجة/الكاتبة" إلى متاهات سردية ودوائر حكائية ستصيبها (أي البطلة) بغيبوبة لن تنهض منها إلا مع نهاية الحكاية.

هذه الحكاية هي نفسها التي كانت تهم البطلة بكتابتها لولا العيّ والعسر الذي صاحبها في الفترة الأخيرة من زواجها، وهي الحكاية نفسها التي ستطاردها (البطلة) لتفسير الحلم الذي زارها مرات كثيرة طوال حياتها، وهي الحكاية ذاتها التي ستقرأها البطلة أيضا في كتاب أُرسل لها من قِبَل جدتها، ثم هي الحكاية ذاتها أيضا التي نقرأها نحن القرّاء كلما قلبنا صفحات الرواية.

هي متاهات سردية ودوائر حكائية – إذن - ستشكل معمار النص السردي وبناءه الخارجي، أما فناء النص الداخلي وأروقته ودهاليزه وغرفه السردية فإنها تحتشد بكم هائل من القصص العجائبية والحكايات الغرائبية وشخصيات من عالم السحرة والجن والممسوسين والمغيبين وأصحاب العاهات وحيوانات ذات قدرات خارقة تعيدنا مباشرة إلى أجواء ألف ليلة وليلة والقصص الخرافية القديمة، كل ذلك سيشكل مادة الحكاية التي تطاردها البطلة والتي ستقدمها لاحقا للقرّاء - نقلا من كتاب الجدة - فيما يشبه حساء السحر العجيب الذي ما إن نتناوله/نقرأه حتى نصاب مثلها بالفضول والدهشة والغموض، والرغبة في مطاردة الحكاية وسردها في متوالية سردية لا تعرف التوقف.

في رواية كهذه تحتشد بقصص رئيسة وحكايات فرعية وأخرى ثانوية، كما تحفل بالكثير من الموروث الخرافي والأسطوري والديني، وتزخر بالعديد من الشخصيات الواقعية والخيالية، وتتضمن كثيرا من الرؤى والأفكار التنويرية قد لا يتسع المجال للكتابة عنها جميعها هنا أو الوقوف عند تفاصيلها بالتحليل، خاصة في ورقة نقدية تروم استبطان بنية النص الرئيسة ومضامينه المحورية فقط دون الاستغراق في تفاصيل الحكايات وتشعباتها.

على هذا الأساس أقترح قراءة الرواية قراءة سردية بناء على محورين أساسيين الأول هو: هيكل النص السردي وبنيته الفنية وهو ما سنطلق عليه "متاهات السرد"، والمحور الثاني هو مضامين الحكاية العجائبية وأسطرة القصص، وهو ما يمكن أن أسميه بـ "حساء السحر العجيب"، وذلك بعد أن أستكنه دلالة العتبة الأولى للرواية وهي عنوانها الرئيس والمفضي إلى عوالمها السحرية.

-         العتبة الأولى: المنفيون في الخيال/ المثبتون في الحقيقة

يتضمن عنوان الرواية "لا يُذكرون في مجاز" تشويقا مبطنا للمتلقي حيث تنقدح شرارة السؤال في ذهنه ما إن يقرأ العنوان: فمن هم هؤلاء الذين لا يذكرون في مجاز؟ ثم يأتي الغموض مباشرة في مدلول لفظة "مجاز" لتشكل حيرة أخرى عند المتلقي حول دلالتها الحقيقية! يمكننا سبر أغوار العتبة الأولى للرواية من خلال استظهار دلالتين اثنتين يتضمنهما العنوان السابق: إحداهما تطفو على سطح بنيته الخارجية، والثانية تغوص في بنيته الداخلية العميقة، في الأولى يُوظف الفعل المضارع المبني للمجهول للدلالة على فئة غير معروفة سنعرف لاحقا بعد القراءة أنهم "المنسيون"، لقد عبرّ الفعل المبني للمجهول بشكل عميق عن هؤلاء الذين نجهل مصيرهم بعد نفيهم إلى جبل الغائب، ومن هنا نفهم دلالة توظيف أداة النفي "لا" حيث سيُنفى هؤلاء المنسيون ويُمنع ذكرهم في قريتهم و"لا يُذكرون" أبدا، كما تعمّدت المؤلفة تغييب أي لفظة أو إشارة لهؤلاء المنسيين باستخدام الجملة الفعلية بدلا من الاسمية - التي تستلزم الإشارة لهم - إمعانا في زيادة جرعة الغموض والتشويق في ذهن القارئ المتحفّز للقراءة، وهي لا ريب تقنية إشهارية أجادت المؤلفة في استخدامها.

أما دلالة لفظة "مجاز" المثيرة للحيرة فأقصى ما يستطيع ذهن القارئ التوصل إليه هو أنّ "مجاز" هنا: المعْبر أو الممر كما تشير إليه دلالته المعجمية، أو أنّ "مجاز" هو الخيال كما تشير إليه دلالته الاصطلاحية، وفي كلتا الحالتين فالدَّال "مجاز" ومدلوله يسهمان في إحاطة العنوان بهالة من الغموض المحير.

لكن بعد أن نقطع شوطا في قراءة الرواية/ الحكاية نستطيع نحن القرّاء أن نرجع للعنوان مرة أخرى لندرك أن هؤلاء الذين "لا يذكرون" هم " المنسيون" الذي ارتكبوا فعلا محرما سيسوقهم إلى جبل الغائب ليتطهروا من ذنوبهم، و"مجاز" هذه ما هي إلا قرية تائهة في زمن سحيق تحيطها ثلاثة جبال وحصن شاهق عظيم، ثم حين ننهي صفحات الرواية/الحكاية نستطيع صيد الدلالة المختبئة في بنية العنوان العميقة، فالمنسيون الذين "لا يذكرون في مجاز" هم أنفسهم "المثبتون في الحقيقة"، فإذا كانوا منفيين إلى جبل الغائب ومغيبين في مجاز ظلما وعدوانا، فقد بُعثوا في الحكايات الست وفي الكتاب الذي كتبته بثنة الثائبة لحفيداتها القارئات أو الممررات، وأصبحوا كائنات حية حقيقية على صفحات الكتاب نذكرهم ونعرف حكايتهم نحن المتلقين للنص، ويذكرهم كل من يقرأ حكايتهم.

متاهات السرد:

إذا كانت الرواية تستلهم أجواء ألف ليلة وليلة فإن أفضل بناء سردي تنهض عليه هو نفسه البناء السردي الذي نهضت به حكايات ألف ليلة وليلة، أي الاستعانة بالتقنية نفسها وهي تقنية الحكاية الإطارية، أو قوالب السرد المتعددة، لكننا في هذه الرواية سنجد تحريكا محكما لهذه التقنية بحيث تتشكل دوائر سردية متعددة ومتداخلة تشبه الدوامات التي تنتج من إلقاء حجر في بركة ماء.

تبدأ الرواية بالحكاية الإطارية الكبرى (سنرمز لها بالرمز أ) حول كاتبة تعيش مع زوجها في بيت في مسقط تنهض من نومها على حلم عجيب كان يراودها دائما، ثم تعثر على طرد أرسل إليها من قبل جدتها التي تسكن في قريتها البعيدة "مجاز"، ضمن هذ الحكاية الإطارية تحدث حكاية أخرى بين الكاتبة وجدتها هذه المرة التي ذهبت إليها لتبحث عن حكاية الكتاب الذي أرسلته لها (سنرمز لها بالرمز ب)، وهنا تحدث مفاجأة لها حيث تتعرض لحادث سير تفقد على إثره وعيها. تتشعب هذه الحكاية إلى فرعين رئيسين وفي خطين زمنيين متوازيين: هنالك حكاية تحدث في المستشفى بعد نقلها إليه إثر الحادث الأليم الذي تعرضت له حيث يجري تطبيبها والعناية بها من قبل زوجها وأهلها وطاقم المستشفى، وهنالك حكاية تحدث لها مع جدتها التي تحاول إنقاذها بعد تعرضها للحادث، حيث تقوم بعلاجها في بيتها القديم في قريتها الأولى "مجاز" - التي تبعد عن مسقط حوالي 300كم - والتي تاهت عنها.

تتضمن الحكاية الثانية بفرعيها الرئيسين حكاية جدتها الثالثة والثمانين بثنة الثائبة (سنرمز لها بالرمز ج) التي تتعرف عليها وعلى أحداث حكايتها من خلال قراءة الكتاب السحري الذي أرسل إليها من قبل جدتها الأولى التي تفرض عليها أن تقرأه أثناء فترة علاجها، ثم نجد أنفسها نبتعد في الزمن أكثر حين تتضمن الحكاية الثالثة ست حكايات منفصلة لست شخصيات هي نفسها حكايات الذين "لا يذكرون في مجاز" أو حكايات المنسيين الذين لا يستطيع أحد أن يذكر حكاياتهم أمام الملأ سوى شخص واحد خارج الحصن هو الضحَّاك، حتى هذه الحكايات الست قد تتضمن تفريعا حكائيا مثل: قصة الفلج الأسود والعين المطمورة وحجر التي يرويها ألماس.

 بعد حكايات المنسيين نعود مرة أخرى لاستكمال حكاية بثنة الثائبة مع شخصيات أخرى عايشتها في قرية مجاز هي (صفيراء مقلبة القلوب، والخبابة، وألماس) تشكل مع ما سبقها من حكايات المنسيين الستة فصول الكتاب التسعة الذي تقرأه (البطلة/ الكاتبة) ضمن الحكاية الثانية (ب) بصحبة جدتها بعد أن تقوم بتغييبها أو في غيبوبتها العقلية في المستشفى بصحبة زوجها وأمها. ثم أخيرا نرجع إلى الحكاية الإطارية الأولى التي بدأت بها الرواية، وهي البحث عن حكاية الحلم الغريب الذي كان يرادوها منذ كانت طفلة صغيرة لكن الفرق أن البطلة تملك الآن تفسير الحلم/ الحكاية التي طالما بحثت عنها لتكتبها، وهي الحكاية نفسها التي قرأناها نحن القرّاء في الرواية/ الكتاب.

تمثل دوائر السرد السابقة متاهات سردية في نسيج الحكاية، استطاعت الكاتبة إحكام بنيتها وضبط ممراتها السردية، وقد خلفت وراءها أجواء من الغموض والسحر يتناسب طرديا مع نوع الحكايات العجائبية والشخصيات الخرافية التي تدور حولها الحكايات المتداخلة السابقة، كما أدت هذه التقنية دورا في بث الحيرة في ذهن المتلقي وزرع التشويق في دهاليز النص لينجذب القارئ بشدة لاستكمال الحكايات التي تظل ناقصة ما لم تكمل الحكاية المتضمنة فيها.

في مقابل ذلك سنجد أن تعدد الحكايات وقولبتها بالشكل التي ظهرت به استدعت بروز رواة متعددين ليرووا الحكايات المتداخلة من منظورهم أو بحسب مشاهداتهم أو معرفتهم للقصص وسماعهم إياها.

هناك الساردة الكبرى (الزوجة/ الكاتبة) للحكاية الإطارية (أ) والحكاية الثانية (ب)، تروي الحكايتين بضمير المتكلم باعتبارها البطلة الرئيسة للحكايتين، وهي في الحكاية الثانية ستروي حكاية بثنة الثائبة لجدتها من خلال قراءة الكتاب السحري الذي أرسلته لها.

وهنالك أيضا بثنة الثائبة (الساردة الثانية) التي ستحكي حكايتها بعد وصولها لقرية "مجاز" مع الرجال الأشداء الذين تاهوا في الصحراء، تحضر بثنة بوصفها ساردة يقع على عاتقها مسؤولية سرد حكاية قرية مجاز والأحداث التي عايشتها هناك وكشف ألغاز المنسيين وإثبات حكايتهم لاحقا في كتاب سحري حتى لا يُنسى ذكرهم.

ثم هنالك شخصية الضحّاك الذ ي سيتولى سرد حكايات المنسيين الستة (حويضر، بشير، نجيم، شنان، العشب، والشاغي) لبثنة الثائبة، ثم حين تستكمل بثنة الثائبة سرد الأحداث التي جرت للثلاثة (صفيراء والخبابة والموت) الذين سيساهمون في القضاء على سلطة الحصن ومستشاره (ألماس) سنجد تحولات طفيفة في الصوت السردي الذي تتكفل به أحيانا بثنة لتروي لصفيراء، أو الخبابة التي تروي لبثنة وصفيراء والموت حكايتها مع ألماس.

تقلبات الصوت السردي سيؤدي إلى ظهور الرواي العليم بكل شيء حتى أدق التفاصيل التي لا يمكن معرفتها إلا إذا روى الشخص بنفسه حكايته، أقصد بذلك شخصية الضحاك الذي سيتولى سرد أحداث قصص المنسيين الستة، فهو راو عليم سيوقع القارئ في اضطراب حين نجد أنه شخصية لا تتمتع بقوى خارقة – لتبرير معرفته الدقيقة بقصص المنسيين - ومع ذلك فهو يستطيع سرد تفاصيل حكاية كل منسيّ، وما يقع له حتى في الأماكن المغلقة كأنه المنسي نفسه.

أما إيقاع السرد [1] الذي ظل متوترا وبدرجة عالية من التسارع والكثافة والغموض ابتداء من الصفحات الأولى للرواية فإنه سيصاب بالانكماش وتتراجع حدته ما إن تتوالى قصص المنسيين الستة، مردُّ ذلك في تصوري يرجع إلى التكرار الملحوظ في بنية قصص المنسيين ونمطية سردها.

إن المتتبع للبناء الهيكلي لهذه القصص سيلاحظ تشابها في تصميم بنائها يمكن رصده في المتوالية التالية: (ظهور العلامة في الشخص وحديث الناس عنه – وجود كتب أو صحائف عند هذا الشخص ومحاولته إخفاءها – الاعتراف بالذنب المحرم – الذهاب إلى جبل الغائب) فإذا أضفنا إلى ذلك ترقب حدوث القحط والأمراض والجوع والبوار ثم انجلاء الغمة بعد الرحيل لجبل الغائب في بعض القصص، نجد أننا فعلا أمام نسخ متكررة من القصة ذاتها، تختلف فيها الشخوص والأحداث ويظل البناء واحدا وفي إطار مكاني واحد يلملم شتات القصص بتنوعها.

إن تكرارا من هذا النوع سيحدث ضررا في الشفرة التأويلية للنص عند المتلقي، إذ سرعان ما سيتكشف القارئ تلك المتوالية ليخفت وهج التشويق والمفاجأة اللذين يرتكز عليهما بناء النص، وبالتالي سيصيب الإيقاع السردي نوعٌ من الترهل والهبوط لكن المتاهة السردية - التي تحدثنا عنها سابقا - ستعيد للسرد توهجه وألقه بعد نهاية قصص المنسيين حيث ستتكفل قصة بثنة وصويحباتها (صفيراء والخبابة) بالإضافة إلى قصتي الموت وألماس بعودة الإيقاع السردي إلى حالة جديدة من التشويق والكثافة والإمتاع.

حساء الساحرة العجيب:

إن كثافة القصص وغرابتها، وتعدد الحكايات وعجائبيتها، وتنوع الشخصيات واختلافها، أضف إلى ذلك تقلبات الأزمنة وطولها، كل ذلك يضعنا أمام رواية فانتازية تحشد في مضامينها كل ما من شأنه أن يثير دهشة القارئ واستغرابه، كما قد تجعله يضيع أحيانا ويفقد بوصلة المنطق الذي تجري عليه الأحداث!

 من هذا المنطلق فإن الشخصيات الخرافية والأسطورية التي تضج بها مجاز وما جاورها مثل السحرة والعرافين والمغيبين والجن وأنصاف الجن والحيوانات ذات القدرات الخارقة يجعلنا أمام أدب عجائبي بامتياز تُخترق فيه قوانين الطبيعة بشكل مثير ولافت نشعر معه "بالتردد بين ما هو طبيعي وفوق طبيعي"[2] كما يقول تزيفيتان تودوروف، وفي مقابل ذلك فإن الشخصيات البشرية الواقعية تمتلك أحيانا من القدرات الخارقة واجتراح المعجزات ما يجعلنا أمام واقعية سحرية يتهاوى معها المنطق والعلم (مثل المرأة التي تدل بعد مائة عام أو الرجل الذي يتقيأ معدته وأمعاءه على الحقيقة أو الزئبق الذي يثقل الرجل وغيرها )، في حالة كهذه تتمتع فيها الشخصيات العجيبة والشخصيات الواقعية على حد سواء بقدرات خارقة أو تقع لها أحداث تُكسر فيها قوانين الطبيعة دون تقييد ستكون منطقية الحوادث والروابط السببية لمجريات الأحداث غير قابلة للتفسير، وهذا ما سيؤدي إلى زعزعة الخط الفاصل والدقيق بين الواقعي والمتخيل، حيث يتم التحكم بمصائر الشخصيات وسيرورة الأحداث وفق ميكانيزمات لامنطقية أو غير معقولة مما قد يقنع القارئ في كثير من الأحيان، ويوقعه في حيرة وتساؤل في أحيان أخرى، ولا ضير في ذلك إذا كانت معظم الأحداث تدور في بلدة متخيلة قائمة على الخيال تُدعى "مجاز".

عدم وجود حد فاصل بين الواقع والمتخيل أو تقديم تفسيرات علمية منطقية لما يحدث للشخصيات سيؤدي إلى تماه وامتزاج بينهما (أي بين الواقع والخيال) يصعب معه التكهن في حقيقة ما يحدث للبطلة سواء منا نحن القراء أو حتى من الشخصيات التي ترافقها في علاجها، فحتى مع ختام الرواية والصفحة الأخيرة منها نظل غير متأكدين تماما مما قد حصل للبطلة، فهل ذهبت فعلا لجدتها ثم وقع لها حادث وأصيبت في رأسها وأدى ذلك إلى دخولها المستشفى وأعقبتها غيبوية وهلوسات جعلتها تتخيل جدتها الأولى والتي بدورها جعلتها تقرأ حكاية جدتها بثنة "الحادث كان قويا، ارتجاج في الدماغ أدى إلى غيبوية"، أم أن ما حدث عقب الحادث هو محاولة حقيقية من قبل جدتها لتغييب عقلها كما يفعل السحرة بتغييب البشر، وما حدث من أحداث في بيت الجدة في قرية مجاز وقراءة الكتاب هو حقيقة – وإن كانت روحية وليست جسدية - كما يظن البعض الذي يؤمنون بفكرة التغييب "والمغايبة" "وماذا قالت الجدة المصابة بالخرف والمحجوزة في دار العجزة؟ قالت بأن حفيدتها معها، وستعلمها العلوم كلها شئنا أم أبينا"، لسنا متأكدين متى حدث بالضبط كسر الواقع وتحطيم القانون الطبيعي، هل بعد أخذها للأقراص المنومة في ص22 وما بعده يصبح متخيلا بما في ذلك الحادث الذي حدث لها، أم بعد الحادث؟ لن نكون متأكدين تماما من شيء لعدم وجود رابط أو إشارة تدل على أيٍ من وجهتي النظر السابقتين الأقرب للتصديق.

هذا التداعي الحر للمجاز والخيال قد يوقع النص أحيانا في مزالق وتناقضات لا يمكن تفسيرها بمنطقية سردية، نقرأ مثلا وصف بثنة للحصن في الحكاية الثالثة(ج):"... وكنت متعجبة من ضخامة البناء، سقف الحصن مرتفع ولا يحتوي على أخشاب، والاسطوانات تنزل من السقف إلى الأرض لتشكل أعمدة صلبة، ولا يقل عرض الجدار الواحد عن ثلاثة أمتار. تخفي جدران الحصن السميكة ذات الأبراج المشيدة من الآجر معمارا بارعا..."[3] بيد أن هذا الحصن السميك الذي لا يحتوي على أخشاب - وظل لمئات السنين قائما - يتهاوى بكل بساطة بالأرضة: "لأشهر وسنوات ظلت الرمة تقوض بأسنانها القوية أعمدة الحصن الراسخة حتى تهاوت وسقطت"[4]، ولرب قائل يقول: إن الحكاية كاملة قائمة على اللا منطق والواقعية السحرية وقدرات الكائنات الحية الخارقة فما الضير في ذلك؟ لكن إذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل بدورنا: لِمَ لَمْ يستخدم (الموت) الرمة – وهو المحبوس منذ مئة سنة - لكي يتخلص من الزنزانة، ويقوض الحصن فوق رؤوس أصحابه إذا كان حقا متحكما بها وتستطيع هي بدورها أكل الأعمدة الحجرية والأبراج السميكة!

في سرد كهذا يتردد بين ما هو عجيب وغريب، يلعب الزمن دورا محوريا في ترسيخ اللامعقول في ذهن المتلقي وإقناعه به، ولذا يمتد زمن الرواية ويطول أحيانا لآلاف السنين، فإذا كنا نستطيع معرفة الأحداث التي جرت لبثة الثائبة - الجدة الثالثة والثمانين للكاتبة – بحساب عمر الأجيال؛ فإن الحكاية الثالثة (ج) تقع أحداثها قبل الميلاد بأكثر من خمسمائة سنة على أقل تقدير، فيما تقع قصص المنسيين الستة وصفيراء والموت وألماس أبعد من ذلك بكثير، ويقدم النص دائما ما يوحي لإشارات زمنية موغلة في القدم مثل: منذ "مئات السنين" أو "آلاف السنين".

يظل الزمن يرجع بنا إلى الوراء كلما تقدمنا في متاهات السرد، وهناك تقوم المؤلفة بترصيع السرد بقصص مستلهمة من التراث الأسطوري (مثل: قصة الشاغي الذي يولد لأب من الجن وأم بشرية يذكرنا بأنصاف البشر في الميثولوجيا الإغريقية، ورغبة ألماس بالخلود بأسطورة جلجامش)، ومن الموروث الخرافي (الساحر الذي يركب الضبعة بطريقة معكوسة - الزئبق الذي يقتل الساحر - قصص المغايبة وغيرها)، والفلكلور الشعبي (مناطحة الثيران في قصة الخشن)، كما تتناص الرواية مع القصص الدينية (شفاء الناس بالمسح عليهم مثلما نجد في قصة المسيح – الموت يتحدث مع الرمة وقصة موت ألماس ومعرفة ذلك عن طريق الأرضة التي تأكل عصاه تذكرنا بقصة النبي سليمان)، وتتناص أيضا مع الشخصيات التراثية (مثلا: بثنة التي ترى من بعيد ما وراء الأسوار تذكرنا بزرقاء اليمامة – ألماس يشبه جلجامش في البحث عن الخلود)  كل ذلك يتداخل ويمتزج مشكلا حساء قصصيا جديدا بنكهة عجائبية شهية.

طول الزمن هذا الذي يقع قبل آلاف السنين في قرية مجاز قد لا يتناسب أحيانا مع المتخيل الذي تحاول القصص تصويره لنا، إذ إننا نلمح أحيانا أحداثا أو أوصافا أو أشخاصا لا ينتمون إلى ذلك الزمن بقدر انتمائهم إلى زمان أقرب أو مكان آخر يقترب من زماننا، خذ مثلا بعض العقائد والطقوس الدينية التي تنتمي لديانات التوحيد الإبراهيمية منها لزمن أحداث الرواية، نقرأ مثلا: "والله إني أحبه حبا لا يعلمه إلا الله، كيف لي أن أحتمل العيش مع رجل لا يذكره الله"، "وأقول إن الله سيذكره ويبتليه يوما ما"، "إن حويضر لا يأتي ليصلي، ولا يرفع يديه بالدعاء"، "يا رب أعطني في الدنيا ما أريد، وعذبني في أبديتك عذابا شديدا"، "الطمع بالمغفرة، وغسل الخطايا"، فيما يمكن رصد بعض الملامح القريبة من عمان الحديثة العهد (إلى مئات السنين) وليست عمان الموغلة في قدم التاريخ القديم: "حتى تبدأ تباشر النخيل وأولها نغال القيظ"، "ثوب فضفاض يصل إلى الركبة وأسفله سروال منقش بخيوط يعكفن لليال طويلة على اختيار ألوانها وخياطتها"، أو مصطلحات علمية حديثة لا يمكن أن يقولها شخص عاش قبل آلاف السنين مثل: "التبول اللاإرادي".

أخيرا: ثمة رؤى تنويرية - ينبغي الإشارة إليها في عجالة - متضمنة في نسيج الحكي الروائي لا يمكن أن يغفل عنها القارئ أثناء قراءته؛ لتكرار ورودها كما في الأولى، ولأهمية ارتباطها بتقويض سادة الحصن في ختام الحكاية كما في الثانية، مثلما سنرى بعد قليل.

فأما الأولى فهي من ضمن البنى الرئيسة التي تحدثنا عنها سابقا في حكايات المنسيين الستة، فهؤلاء جميعا اشتركوا في فعل محرّم واحد هو القراءة واقتناء الكتب والصحائف التي كانت السبب الرئيس في نفيهم إلى جبل الغائب ظلما وجورا، ففي مجتمع يحتفي بالسحر والخرافة ويجرّم العلم وقراءة الكتب، وتعتمد فيه السلطة على تجهيل رعاياها، فإن أفضل طريقة لتظل السلطة متحكمة في شعبها ومسيطرة عليه هو بث الرعب في نفوس أفراده، ونفي كل من يتجرأ على البحث عن الحقيقة، وقد تكون قرية "مجاز" رمزا تحيلنا إلى الفترة الحالكة من تاريخ عمان الحديث حيث عششت الخرافة في عقول الناس، وسيطرت قصص السحر والمغايبة على حياتهم اليومية، وصُنع الجهل صناعة بمنع التعليم وحرمان الناس من حقهم في الحصول على حياة أفضل.

لقد حصل المنسيون أخيرا على من يعيد حقهم، ويعيد ذكرهم حين قرّرت البطلة أن تسرد حكاياتهم في كتاب/ رواية أخذت تفاصيل أحداثها ومجرياتها من قراءتها لكتابٍ كتبته جدتها القديمة لتعيد قراءته لجدتها الأولى، هكذا يصبح المنسيون مذكورين دائما فإن كانوا "لا يُذكرون في مجاز" فهم سيذكرون في الحقيقة والواقع.

وأما الثانية ستتطلب منا قراءة النص وفقا لمنهج الواقعية الاشتراكية، حيث مجتمع مجاز الذي ينقسم لطبقتين الأولى: أرستقراطية تمثل سيد الحصن ومستشاره ونساءهم وعبيدهم، والثانية: بقية الشعب الذين يقطنون خارج الحصن، وهناك طبقة ثالثة تشمل الرجال الأشداء الذين يتمتعون بمهارات تجعلهم يشاركون في عمليات المقايضة في القرى المجاورة والبعيدة لقرية مجاز.

تقسيم المجتمع إلى طبقتين متمايزتين تماما مع اعتماد الطبقة الأولى – كما ذكرنا سابقا - على تغييب الحقيقة عن الناس وبث الخوف فيهم ونشر الجهل في أوساطهم وتقييد حريتهم، كل ذلك لأغراض شخصية مع ما ذكرنا من نفيٍ لكل من يتجرأ على طلب الحقيقة والمعرفة سيولد كلّ ذلك انفجارا وثورة على ملاك الحصن سيقوم بها مجموعة من السجناء السابقين (صفيراء والموت) بالتعاون مع (بثنة والخبابة). هذه الثورة التي يقودها أفراد محدودون وباستخدام قدراتهم الخارقة قد لا يقنع القارئ المتلهف لما سيقوم به الشعب المحروم والمخدوع أو حتى بعض أفراده بالثورة بممكناتهم البشرية العادية للقضاء على السحرة وأعوانهم دون اللجوء لاستخدام قدرات خارقة بل الاعتماد على الأسباب المنطقية والمعقولة لدحر الظلم والعدوان المتكئ على الجهل والخرافة؛ فذلك أدعى لأن تُلهم المتلقين وتقنعهم بحتمية الثورة والانتفاضة ضد الطغاة.

ونختم بالقول: إن سلالة السرد ورشاقته، وتوالد القصص العجائبية وغرابتها، وتمازج الموروث الخرافي مع الخطاب التنويري كلها عناصر ساهمت في الأخذ بلب القارئ، والإمساك بتلابيب ذهنه والاستحواذ على حواسه التي ستظل تتابع حكايات المنسيين في مجاز وحكاية بثنة معهم، ثم حكاية البطلة مع جدتها ومع زوجها في قالب الحكاية العام، ليتحقق حلمها ورغبتها في كتابة حكاية نكون قد قرأناها حقيقة مع آخر صفحة في الرواية التي أجادت المؤلفة حقا غلقها بطريقة فنية محكمة. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] الإيقاع السردي مصطلح يعادل هنا الشفرة التأويلية للنص القائمة على عنصري المفاجأة والتشويق.

[2] تزيفيتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، تر:الصديق بوعلام، ط1، دار شرقيات، القاهرة، 1994، ص44.

[3] الرواية، ص52.

[4] الرواية، ص212.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي