بيت الجريزة: تذكّرات عن الطفولة والموت والأماكن الأثيرة

 





سليمان المعمري

بيت الزبير، 26 سبتمبر2022


        إذا كان هاشم الشامسي قد صنّف كتابه "بيت الجريزة" سيرة ذاتية، كما هو مكتوب على الغلاف، فإن التوصيف الأدق على ما يبدو لي هو "ذاكرة أمكنةٍ" تقاطعتْ معها ذات المؤلف، وتذكرتْ ما عاشته فيها عبر مراحلها العُمرية المختلفة، والتقطتْ بعض الأحداث أو المواقف التي رسخت في الذاكرة. أماكن عاش فيها الشامسي وشكلتْ ذاتَه التي لا يكتفي بأن تكون هي الحاضرةَ في السرد، بل يصف لنا أيضًا تفاصيل المكان والبشر والأشجار والكائنات

العنوان المضلل:

جاء عنوان "بيت الجريزة" من أحد المعالم الأثرية لمدينة مسقط، كان قد شُيِّدَ على أنقاض كنيسة بناها البرتغاليون في المدينة، إنه –كما يذكر المؤلف- تحريف للفظ الكنيسة البرتغالي "أكريجا". وينقل الشامسي عن القنصل البريطاني في عُمان صمويل باريت مايلز الذي أقام في مسقط في الفترة ما بين عامَيْ 1872 و1886م أن "بيت الجريزة" كان مقرًا لإقامة حكام الدولة البوسعيدية، وكان السيد سلطان بن أحمد بن سعيد آخرَ من أقام فيه حتى سنة 1800م.  من هنا سيبدو للوهلة الأولى أن هذا هو أنسب عنوان للكتاب، إذْ هو رمز مسقط القديمة، الحاضرة في ذاكرة الكاتب كمدينة فاضلة، مثلما عنون الجزءَ الأول من الكتاب. لكن السرد سيتقدم بعد قليل، وسينتقل المؤلف للحديث عن السيب التي يصفها بأنها "قرية في القلب"، ثم الإسكندرية – وجهة الدراسة الجامعية - التي سيصفها بأنها "سفر الجسد والروح والألم والحب واكتشاف المجهول"، وسنكتشف نحن القراء أننا وقعنا – إلى حدِّ ما - في فخ التضليل، فليس الكتاب عن "بيت الجريزة" فقط، حتى وإن كانتْ صورتُه تتوسط الغلاف، إنه أيضًا عن السيب ومقاهيها وأوديتها وحصونها ومُزارعيها ومواسم حصادها ومجالسها الصباحية والمسائية. وهو أيضًا عن الإسكندرية وميادينها ومكتباتها ومسارحها ولبنها الطازج. إنه كذلك عن الطفولة وذكرياتها وشقاواتها، وعن الموت وهو "يرقص مع الحياة" ويخاتلها ويشاكسها ويصنع معناها. ولكن أنى لمؤلف أن يصنع عنوانًا من كل هذا الخليط؟

لغة السرد:

نستطيع قراءة لغتين متباينتين في هذا الكتاب، الأولى أدبية مكثفة تبرز أكثر ما تبرز عندما يتحدث المؤلف عن نفسه وهواجسه وتأملاته، ولغة أخرى صحفية جافة تظهر عندما يحرص على تعريفنا بمكانٍ ما أو مَعْلَمٍ فيه، أو توثيق عادات عُمانية أو زملاء دراسة، أو أشخاص غائرين في جزء مظلم من الذاكرة. من أمثلة اللغة الأدبية حديثه عن السيب القديمة: "في منتصف الستينيات كنا في السيب القديمة الوادعة والمنفتحة على سماء قلوبنا بأرضها وفضائها. كنا أطفالاً نتتبع السحب الراحلة ونعتقد عندما تمر السحب في فضاء السماء وشفافة وناصعة البياض ونرى ظلها يغطينا، أن أهلنا وأحبابنا الغائبين الذين رحلوا عنا هم فوق السحاب حملتهم الملائكة، وجاؤوا الآن ليرونا ويسلموا علينا. كنا نتخيل أرواحهم الراحلة تحملها السحب وكأنهم يجلسون على أرائك من حرير، نبقى محلقين بنظراتنا ونحن نلوح بأيدينا لعلهم يتعرفون علينا ونشعر كأنهم يسبحون مع السحاب وهم في رحيلهم الأبدي"[1]أما اللغة الصحفية فنُمثِّل لها بهذا المقطع عن السيب أيضًا: "وتعد ولاية السيب من المدن التاريخية الجميلة في سلطنة عُمان، حيث تتميز بموقعها الجغرافي الذي يطل على بحر عُمان، وتتمتع بشاطئ سياحي جميل [...]. وتُعد السيب من أكثر الولايات في السلطنة كثافة في عدد السكان كما تُعد الولاية ملتقى لباقي الولايات الأخرى بالسلطنة للقادمين إلى محافظة مسقط"[2]

الطفولة:

قلنا قبل قليل إنه كتاب عن الطفولة أيضًا، التي تحضر بقوة في مكانين من أمكنته الثلاثة. هذه الطفولة هي بطلة معظم السرد في مسقط القديمة بحكم قضاء الشامسي جلّ مرحلة الطفولة فيها. يكتب: "ها أنا يا مسقط الطفولة أتخطى عتباتك لتكوني عوناً لي لأقلب صفحات أيامي ودروب طفولتي الكامنة في الأعماق، تلك الدروب التي خفق لها قلبي على مر الأيام، وكان لها أثرها وبريقها على مسيرة حياتي"[3]. يتذكر المؤلف استياءه وهو طفل من اسمه القديم "هشام" لأن معلّمة القرآن التي كان يذهب إليها تحمل الاسم نفسه، وكيف أن والده بدّل اسمه إلى "هاشم" ليحميه من سخريات أقرانه الأطفال، ويتذكر أيضًا يوم تسجيله للمدرسة وارتباكه أمام مجسم لفيل باللون الأسود كان يقبع بجانب مكتب مدير المدرسة السعيدية، ولعبه كرة القدم بجوار "بيت الجريزة"، ويستذكر يوم رحيله شقيقه محمد ودموع أمه وهي تتأمل يائسة طفلها الذي لا يقوى على الحركة أو الاِستجابة للدواء. يتذكّر المجنون كروس الذي كان يراه وهو في طريقه إلى المدرسة فيخيفه منظره بأسماله البالية وكيسه الذي لا يفارق ظهره، يتذكرّ حتى شقاواته عندما أجهز على قطة كانت تأكل من خشاش صندوق القمامة.  

        لكن طفولته لم تكن كلّها في مسقط، بل كان جزء كبير منها في السيب أيضًا التي يقضي فيها كل صيف مع أسرته. إنها – أي السيب- "الجانب الآخر من حياة الطفولة"، يكتب الشامسي عن طفولته في السيب: "كانت طفولتي تستيقظ على رائحة إشراقة الفجر، أتذكر تلك الصباحات الشجية النقية والمفعمة بروح النشاط التي تأتي على أصوات زقزقات الطيور المختلفة والممتزجة مع أنغام موسيقى أصوات "المناجير" التي ترفع الماء من الآبار لسقي الأشجار فجرًا"[4]، ويستذكر استيقاظه المبكر وذهابه فجرًا مع أطفال حلة الصبارة بالسيب لالتقاط أثمار الأشجار المتساقطة، وكيف كانت تخيفهم "الفزاعات" التي يضعها المُزارعون لمنع الطيور من الاِقتراب من الثمار. يوثق هذه الذكريات بعد ذلك بقصيدة "هبة الفجر" التي يضمنها الكتاب. وهنا نفتح قوسًا لنقول إن هاشم الشامسي الذي هو شاعر في الأساس، أبى أن يكتفي بالسرد وهو يتذكّر طفولتَه وأماكنه الأثيرة، فضمّن الكتاب عددًا من قصائده الخاصة بالمكان والطفولة التي تفرقت في ثنايا الكتاب.

الإسكندرية:

نستطيع أن نسمي الإسكندرية التي تشكّل المكان الثالث في الكتاب، والتي ذهب إليها المؤلف عام 1979 لاستكمال دراسته الجامعية، مرحلةَ تفتّح العمر وتشكّل الوعي، خصوصًا إذا ما علمنا أن هذه الفترة كانت موّارة بالأحداث السياسية التي كان لها تداعياتها على الوطن العربي، بدءًا من توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978م، ومرورًا بالغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988. تعرّف الشامسي على أسماء سيكون لها شأن في الثقافة العُمانية فيما بعد، كعلي المعمري الذي سيصبح بعد ذلك روائيا وقاصا معروفًا، وشقيقه حمد بن هلال المعمري، الذي سيصبح وكيلًا لوزارة التراث والثقافة. كانت الإسكندرية أيضًا مكان تعرفّه الأول على الشاعر سماء عيسى الذي سبقه في التخرج من جامعة عين شمس في القاهرة في منتصف السبعينيات، ومكان تعرّفه الأول كذلك على الشاعر سيف الرحبي، وموضع لقائه الأول بالشاعر زاهر الغافري، من هنا نفهم أن حبّ الشعر والكتابة تغلغل لدى الشامسي من هذه اللقاءات، ومن انغماسه في الحياة الثقافية لواحدة من أعرق مدن العالم. نلمس ذلك في قوله: "أرواحنا التي رفرفت على مراكز العلم والفنّ فيها، وميادينها، ومقاهيها، ومكتباتها، ومسارحها، ودُور السينما فيها، عانقت أرواحنا بذلك الزخم الفكري والفنّي وتشرّبت منه"[5]، ويقول في موضع آخر: "في الإسكندرية كنا نجلس على عتبات الأمكنة المفتوحة التي تأخذنا إلى أبعاد روحية شتى، وكطيور مهاجرة تؤدي طقوسها وصلواتها كغيرها من الكائنات الأخرى، وكمن يصعد إلى جبل ليرى الهضاب والسهول والسماوات والنجوم والأقمار والبحار وكل الكائنات وهي تسبح كلّ في فلكه، كلّ يبحث عن خلاصه وصفائه، كل يرتوي من ظمأ لينتقل إلى ظمأ آخر، مثله مثل أشجار تاهت جذورها وهي في تتبّع نسغها عن نبع مائها"[6].

الشحّ في البوح:

يخبرنا الكاتب الإنجليزي توماس دي كوينسي عن "أيام إيمانويل كانط الأخيرة"[7]، أن الفيلسوف الألماني المعروف "كانت لديه ذاكرة مثالية في ما يتعلق بالأحداث البعيدة من حياته [..] بينما تتلاشى الكلمات التي نطق بها للتو دون أن يتذكّر منها شيئًا". وعلى عكسه تمامًا نجد هاشم الشامسي الذي لم تكن ذاكرتُه مثالية في بعض الأحداث البعيدة التي وقعت في طفولته، والتي يتوقع القارئ منها أن تُشكّل هذه الطفولة، أو على الأقل ألا تمرّ مرور الكرام على ذاكرة طفل. فالكاتب يخبرنا أن ثمة إعدامات كان يشاهدها وهو طفل لبعض من "ارتكبوا جرائم قتل في المجتمع"، ويصف لحظة إحضار المحكوم عليه بالإعدام في سيارة عسكرية وهو معصوب العينين ومكبّل بالحديد في ساقيه، ويسترسل بطريقة صحفية تقريرية في وصف المشهد حتى ينتهي بإطلاق الرصاصة في قلب المحكوم عليه، دون أن نعرف شيئًا عن مشاعر ذلك الطفل الذي يُراقب كلّ هذا، وهل أثر ذلك عليه في مقبلات سنينه. يُمكن أن نعزو هذا الشُحّ في البوح إلى مكر الذاكرة، وانتقائيتِها، مع الاندهاش طبعًا أنها لم تنتقِ حدثًا مفصليًّا كهذا. يتبدى هذا الشحّ أكثر في اكتفاء المؤلف بعدة أسطر فقط في سرده حكاية الوالدة عائشة الخصيبية التي قامت مقام أمّه  لعدة أيام عندما نُوِّمَتْ الأم في مستشفى الرحمة المعروف بمستشفى طومس بمطرح: "كانت الوالدة عائشة تعاملنا كبقية أولادها وتعدّ لنا وجبة الغداء في بيتها، وعندما نعود من المدرسة أنا وإخوتي يذهب أحدنا لإحضار الغداء من بيتها"[8]. هذا كل ما سرده هاشم عنها في الكتاب، على الرغم من إخبارنا أنها جارته، وأنها تربطها بأمه علاقة حميمة، وأن ابنها هو الممثل والسيناريست العُماني الراحل المعروف جمعة الخصيبى مؤلف وبطل واحد من أشهر المسلسلات الدرامية العُمانية: "مسافر خانة" (أو "الشايب خلف" كما يشتهر عند العُمانيين). كل هذا المعلومات تجعل القارئ يتوقع بوحًا أكثر عن علاقته بهذه الأم الثانية، وابنها. لكن ذلك لم يحدث. ويمكن أن نسحب هذا الشحّ أيضًا على حديثه عن المجنون كروس الذي كان يخيفه عندما يمرّ بالقرب من مدرسته، إذْ من الأسطر القليلة التي وصفه فيها يمكن للمرء أن يخمّن أن لدى هذا المجنون فائضًا من الحكايات التي لم تُرْو.  

لقاء مع الموت:

لم يكن حديث هاشم الشامسي المؤثّر عن موت أخيه محمد في الفصل الأول من الكتاب إلا مقدمة لما سيقوله لاحقًا عن الموت في الفصل الأخير من الكتاب الذي عنونه "لقاء مع الموت"، الذي يسرد فيه حكاية لقائه به – أي الموت- في الساعة السابعة من مساء يوم السبت 28 سبتمبر 2013م: "أتذكر أنني كنت أمارس نشاطاً لعمل في البيت وكانت حالة الطقس ما زالت مرتفعة الحرارة، وأثناء اِنهماكي في عملي شعرت بحالة من الدوخة والدوار في رأسي فقمت مسرعاً ومشيت بضع خطوات وأنا في حالة من عدم الاِتزان والرؤية، بعدها لم أشعر حين سقطت على الأرض وفقدت الوعي"[9] من هذه اللحظة ينطلق الشامسي لتأمل الموت وما يفعله بالحياة، ساردًا يومياته في سرير المرض خلال الأيام الثلاثة التي تلت هذه السقطة، ليخلص إلى أن الموت "هو الأصل في هذا الكون، وما الحياة إلا لحظات ثم نعود مرة ثانية إلى الموت"[10]، إن الموت لدى الشامسي هو "الحنين إلى الحياة الأصلية، تلك الحياة التي لا نعلم عنها شيئاً، حيث الغياب، المطلق، الغموض الذي يحملنا إلى الجمال البعيد الذي يجعلنا نسير خلفه باحثين عن ثمرته التي قد لا نجدها إلا في الحُب الذي يحقق لنا التوافق والتوازن الإنساني والكوني"[11]. وكعادته في الفصول السابقة فإنه يختم الفصل بقصيدة يحاور فيها الموت شاكرًا إياه على منحه فرصة من أجل كتابة قصائد أخرى. وهو أمرُ لافتٌ أن أول أمر يفكّر فيه المبدع حين يرى نفسه في مواجهة مباشرة الموت هو نصّه القادم الذي لم يُنجَزْ بعد. نتذكّر هنا النصّ السردي "قناع المحارب" للشاعر الراحل أمجد ناصر الذي يسرد فيه تلقّيه نبأ فشل العلاج الكيماوي من قبل أطبائه للورم الذي كان في دماغه، وأن عليه أن يستعد للموت، فكان أن سأل الطبيبَ: "لديّ أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت"[12]. كما نتذكّر نيكوس كازانتزاكيس الذي كان يتمنى في أخريات أيامه وهو يصارع المرض أن يقرضه كل شخص من المحيطين به ربع ساعة فقط لينجز ما تبقى من أعماله الأدبية.

         كان الموت كريمًا إذن مع الشامسي في تلك الأيام العصيبة من عام 2013، إذ سمح له ليس فقط بكتابة قصيدة أخرى، بل قصائد ستصدر عام 2017م في كتابه "مغتسلًا بسرمد الرحيل"، كما سمح له بإتمام دراسته عن التجليات الجمالية في شعر الشاعر سماء عيسى لتصدر عام  2015م في كتاب "سفر في وردة الغياب"، وسمح له أيضًا بتأليف هذا الكتاب الجميل عن طفولته وأماكنه الأثيرة.



 



[1] بيت الجريزة، هاشم الشامسي، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بالتعاون مع دار نثر، مسقط، 2021م، ص 53

[2] المصدر السابق، ص 51

[3] المصدر نفسه، ص 11

[4] المصدر نفسه، ص 55

[5] المصدر نفسه، ص 105

[6] المصدر نفسه، ص 108

[7] أيام إيمانويل كانط الأخيرة، توماس دي كوينسي، ترجمة: عبدالمنعم المحجوب، مراجعة: وليد بن أحمد (نشر مشترك: دار مسكلياني ودار صوفيا، 2020م).

[8] بيت الجريزة، ص 31

[9] المصدر السابق، ص 113

[10] المصدر نفسه، ص 117

[11] المصدر نفسه، ص 117 و118

[12] صفحة الشاعر أمجد ناصر على فيسبوك، 13 مايو 2019م.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي