العبور القادم نحو الضوء .. قراءة في كتاب "الخضراء: لؤلؤة النهار وتغريبة المساء"

 

سماء عيسى

بيت الزبير 26 سبتمبر 2022



 

تأخذك قراءة هذه الكتابة الحميمية لمحمد بن صالح الصالحي، إلى اكتشاف وحدة النسيج الاجتماعي العماني منذ أقدم العصور، وحدته وتآلفه يشكلان وحدة مجابهة لكل من اعتقد خاطئا عدم تآلفه، هذا النسيج الذي هو الدعامة لبقاء المجتمع حيا، وطريقا رحبا لتطور الإنسان به، عبر تآلف يجمع مذاهب دينية مختلفة، وإن جاءت من أرضية دينية واحدة، هي الدين الإسلامي، الذي منه تنطلق التآلفات وليس بكتابه الكريم وسيرة رسوله ما يؤدي إلى تمزيق وحدة المجتمع وبنائه المشترك على يدي أبنائه المخلصين.

إحصاء لعدد القبائل التي استوطنت الخضراء يقدم المؤلف شخصيات متعددة المساهمات تنتمي الى تسع عشرة قبيلة تقطن الخضراء هي (الأنصاري، السعدي، العوادي، الشحي، البريدعي، العويسي، المعيني، البلوشي، العلوي، المغيزوي، الحمادي، الصالحي، القاسمي، الرواحي، العدواني، العبيداني، الحارثي، الكندي، الحاتمي). أعتقد أن ذلك عائد لطبيعة المجتمع البحري، وهو المتميز بانفتاحه على الآخر، نظرا لتعدد أسفار أبنائه، وما يحمله هذا الترحال من اكتشاف ثقافات جديدة، تجعلهم قادرين على استيعاب الآخر والترحيب به، وعقد صلات محبة معه، تؤدي إلى التصاهر والاندماج الاجتماعي والثقافي، بالطبع يختلف ذلك عن عزلة سكان الأودية الجبلية وسكان الصحراء، لذلك كان الساحل العماني المطل على البحر العربي ممتدا إلى الجنوب مطلا على المحيط الهندي، الأرض التي تتجه اليها أطماع الغزاة الأوروبيين، والدول المركزية الإسلامية من قبلهم في العصور الأموية والعباسية، فإذا أردت إذن أن تخنق مجتمعا ما، اخنقه من بحاره، التي هي وسيلة تواصله مع العالم، والباب الذي منه وعبره تتواصل الأفكار والديانات والفلسفات البشرية عبر العصور.

هكذا يقدم المؤلف شخصيات بلدته عبر مساهمات حملها الأبناء من أسفارهم ورحيلهم واختلاطهم مع حضارات أخرى قريبة منهم أو بعيدة عنهم في آن، يقدم شخصيات عرفها أو سبقته إلى الحياة والممات بفترة وجيزة، حاملة هموم جيله نفسها، حيث إن الكاتب من مواليد عام ١٩٧١م، مع العودة إلى أحداث تاريخية بشكل عابر أثناء سرده، قدم نماذج في تأسيس الحركة الرياضية عبر فرق كروية أسسها العائدون من دول الخليج، بعد مرحلة اغترابهم الطويل طوال عقدي الخمسينات والستينات، وعودتهم إلى وطنهم ابتداء من سبعينيات القرن الماضي، مع بزوغ عصر النهضة الحديثة وتأسيس الدولة الجديدة في سلطنة عمان. أبرز هؤلاء حمد بن ناصر البلوشي، أحمد بن سعيد البلوشي، أحمد بن إبراهيم العلوي لاتو، محمد بن سيف الصيد، مع مساهمات أخرى لتأسيس المسرح في الخضراء أبرز مساهميها مبارك الصيد، محمد بن سعيد البلوشي، خميس بن سالم البلوشي، قاسم بن محمد خصيف، خليل خميس البلوشي، سامي عبدالله المعيني، سعيد عبدالله العلوي، شوين عبدالله الخميسي، محمود بن محمد السموم، صغرون الحمادي، فيصل بن سعيد العلوي، محمود بن عبدالله العلوي، إبراهيم بن علي العلوي، فتحي بيادر، سليمان المجيني، سخي خادم، هاشل سالم البريدعي، خليفة سليمان، خميس هاشل، جاسم محمد، محمد سعيد، سلطان الحمادي، نبيل عبدالله، سالم عبداله البريدعي، جاسم أحمد سعيد البلوشي، وغيرهم. الكاتب يستعين بذكرى جدته شيخة بنت سالم بن عبدالله القاسمية، في إضفاء محبة للمكان وتقديمه كأرض تتسم بالحميمية المفقودة خاصة في تحملها شدائد الحياة وهي صفة تعرف بها الأمهات العمانيات منذ القدم، تصل إلى درجة السخرية من نوائب الزمن الحديث، كموقفها من أقنعة كورونا، التي كانت تواجهها بالضحك هذه الحميمية يضفيها الكاتب على المكان عامة، عائدا بذاكرته، إلى ظاهرة اختفت اليوم من الحياة كالمسحراتي لاهي بن صالح الخميسي، وجامع الخضراء التاريخي، الذي شهد أسماء أئمته مثل عبد المجيد الانصاري، وأحمد بن عبدالله الأنصاري، وإسماعيل بن خصيف البلوشي، ومحمد بن ناصر السموم، ويوسف بن عبدالمجيد الأنصاري، وخميس بن محمود البلوشي، وحمد بن عبدالله البلوشي.

المكان إذن في ألفته وعطائه التاريخي الرحب، ظاهرة لدى كل الكتاب العمانيين، ما يؤدي الى ظاهرة الحنين إليه وإلى زمانه الغائب حتما، يتواصل ذلك حتى لدى تجارب السينمائيين العمانيين، بل وكتاب السرد، الروائيين وكتاب القصة القصيرة، والشعراء، أي أن حبل التواصل الروحي مع المكان المفقود ما زال يغذي العطاء الإبداعي العماني الجديد عامة، ليس في ذلك خطأ غير إعاقة التآلف مع ما هو حديث ومؤثر وقادر على العطاء الإبداعي. تحدث سينمائي عربي بارز أثناء تواجدنا معا في مهرجان الخليج السينمائي، إن على السينمائيين العمانيين الخروج من هذه البوتقة التي حصروا أنفسهم بها، وتقبل المجتمع المدني الجديد بمختلف تناقضاته، وما يحمله من قضايا أصبح عليهم الالتفات إلى علاجها سينمائيا، الكاتب يوثق لتجربة هامة تهم بالخصوص دارسي التوثيق السينمائي العماني الذي يوثق اهتمام الحكومة العمانية المبكر في توجيه الوعي السياسي للعمانيين اعتمادا على السينما، فقد أحضرت الحكومة في عامي ١٩٧٤-١٩٧٥ سينما متنقلة (بروجكتر)، تبث أفلاما وثائقية عن حرب ظفار، كانت هذه العروض تستمر على مدى يومين أو ثلاثة أيام أسبوعيا، الدراسات التي اطلعت عليها لتوثيق تاريخ السينما في عمان تخلو من هذه الوثيقة الهامة، وهي دراسات منجزة قدمها المخرج حميد العامري والمخرج محمد الكندي على التوالي.

 

تجارب الإبداع الثقافي الجديد في الخضراء، تجلت في الحركة المسرحية المتأسسة في نادي الخضراء، منصة المسرح بالنادي تأسس عليها أيضا مجلس الشعر العماني، يقدم الكاتب عددا من الأسماء المعروفة، ممن ساهموا في تفعيل المسرح والشعر، سرد حميمي جدا يقدمه الكاتب عن هذه التجربة التأسيسية للحراك الثقافي، تمت بعيدا عن الاهتمام الحكومي بمساندة التجربة، التي استمرت حتى انطفائها في السنوات الأخيرة لأسباب مالية عصفت بالنادي، المسرح الذي أصبح الآن قاعة تؤجر للجاليات الآسيوية، تمارس عليها ألعابها التي هي الأخرى انهارت في السنوات الأخيرة .

 

يلتفت الكاتب لما نعرفه بالذاكرة المأساوية للعمانيين، التي تبرز دراستها من خلال دراسة آدابهم وفنونهم المختلفة، يعود بنا هنا إلى أحد أهم  جذورها الراسخة في الذاكرة الجمعية، وهي ذاكرة الموت الجماعي بالأوبئة، خاصة الجدري الذي خصص له سكان الخضراء مكانا منعزلا للمصابين به يدعى مقبرة سور هيان، لأنه وباء ينتشر عبر الهواء، ويحصد الأطفال والكبار معا، تجليات هذه الذاكرة المأساوية تنعكس على أغاني الأطفال، التي يكتب محمد عنها (استغربت كثيرا من هذه الشلة، كيف ونحن أطفال وبكل بهجتنا بالعيد وبالمريحانة كنا نتغنى بالموت والقبر):

                       يا خوتي يا خوتي هيلي يا الله

                       صبروا على موتي هيلي يا الله

                       ويا حافرين القبر هيلي يا الله

                       زيدوا شبر واحد هيلي يا الله

                       وعييت ما أزود هيلي يا الله

                        كل اللحد واحد هيلي يا الله

 

الأغنية الطفولية قادمة من النبع، الذي أصبحت أسيرته، ذاهبة إلى قبوله دون خوف منه، بل تآلف معه خلقه بتكرار حدث الموت اليومي، خاصة مع انتشار الأوبئة، واحتلال مساحة المقبرة المكان الأكبر من أرض الخضراء، المعروفة بمقبرة سور هيان. الذاكرة الجمعية حريصة على خلق هذه الحوارية الغنائية المأساوية بين الطفل وحفار القبر، الطفل يردد  في غنائه: ويا حافرين القبر هيلي يا الله/ زيدوا شبر واحد هيلي يا الله. يأتي رد الحفار عميقا وجوديا: وعييت ما أزود هيلي يا الله/ كل اللحد واحد هيلي يا الله .

 

ثم إنه أيضا يقدم تأويلا معرفيا، لموروث شعبي قديم يدعى الصفور، أهمية الاحتفاء به تكمن بانتهاء الوباء، حيث يقوم المواطنون فيه بتمثيل حرقهم للميكروبات المسببة للوباء، في غناء يتسم بتجدد الحياة وإرادة  استمراريتها. يؤكد أن نهاية الوباء الذي حصد الكثير من السكان كان نهاية شهر صفر، من هنا استمدت الاحتفائية عنوانها والغناء المصاحب لها

                                طالع صفور يا نبي

                                 وهذا ربيع الأولي

 

في النصوص الأخرى الشارحة لمجموعة من الحكايا والأساطير، يقدم الكاتب تحليلا لها، يعتمد على التمازج الحضاري بين ضفتي الخليج العربية والفارسية، مثل طقس السركهوه، معيدا إياه إلى أسطورة فارسية قديمة، تقدم من خلالها القرابين لآلهة البحر، وأسطورة الحمبكر، التي تقام ليلة العاشر من محرم كل عام، يعيدها الكتب أيضا إلى فارس، وهي لديهم في الخضراء تحل محل القرنقشوة في مركز الولاية. فضلا عن عدد آخر من الحكايا الشعبية التي لا تصل إلى ذروة الأساطير، والمرتبطة بمعاناة البحارة والصيادين في البحر مثل حكايا الخنبش  وأبو شريع وشومير، حول إعادة بعض من التراث الشفهي الحكائي والغنائي إلى التراث الآسيوي والإفريقي، أي الشعوب التي اختلطت مع العمانيين ثقافة ودما، يتفق في ذلك معه كافة الباحثين في هذا المجال أهمهم جمعة بن خميس الشيدي عبر موسوعة (أنماط المأثور الموسيقي العماني، دراسة توثيقية وصفية) وعدد من الدراسات المحكمة التي قدمها باحثون من الولايات المتحدة، حول التأثير المتبادل بين عمان والساحل الشرقي لأفريقيا في الغناء والرقص التقليدي. (الاستاذ روث ٠م٠ستون :عمان والغربة الأفريقية في الغناء والرقص والتعبير الجمالي) وللأستاذ هيلز تشنج هود بحث تحت عنوان: (التأثير المتبادل بين عمان والساحل الشرقي لإفريقيا في الرقص التقليدي).

 

في توثيقه للذاكرة السياسية للخضراء، يفرد الكاتب فصلا خاصا  تحت عنوان فرضة آلخضراء، سارية التاريخ وبنديرة آل سعيد، مستعينا بكتاب لوريمر دليل الخليج، الصادر عن مكتب أمير دولة قطر في ستينيات القرن الماضي، موثقا القصف البحري للبوارج البريطانية للخضراء، عام ١٩٢٠م. طال القصف مخازن التمور والقلاع والأسوار. يورد الباحث أن البارجة سيكيلين كانت تبدأ في القصف من الصباح الباكر على مدى شهر ونصف، فتهدمت الكثير من الكنوز والأسوار والحصون والمنازل، حتى تم الصلح بين حكومة مسقط والمشايخ على شروط تفرض بناء فرضة لجباية الضرائب تشرف الحكومة على  بنائها وإدارتها. يحلل الكاتب أثر سلطة الفرضة التي تعد ممثلة للسلطة المركزية في مسقط، مستنتجا جوانب إيجابية حققتها لاحقا للخضراء، إذ عبرها انتعش التبادل التجاري مع دول الجوار، وشكلت تقدما اقتصاديا فاق ما هو عليه سابقا. ويغفل عن تتبع الأحداث  تاريخيا، حيث إن التفاهم بين آل سعد والحكومة المركزية في مسقط، جاء بعد أن شن آل سعد هجوما على بيت الجمارك في الخضراء، وقاموا بحرقه، وردت عليهم الحكومة بإنذار يتطلب دفع غرامة قدرها ٥٠٠ ماريا تريزا، وإعادة بناء بيت الجمارك ودفع الغرامات المستحقة عليهم.

 

الكاتب لا يلتفت إلى التاريخ النضالي البعيد للخضراء، عندما واجه أبناؤها بشجاعة هجوم الوهابيين المفاجئ ليلا من عام ١٢٤٧هـ/١٨٣١م. وقعت المعركة المفاجئة تلك الليلة مع توقع مسبق لسكان الخضراء بهجوم وشيك عليهم، دون معرفة من سيكون المهاجم، وفي الصباح بعد أن انقشعت المعركة التي أسفرت عن هزيمة  المهاجمين وتكبدهم خسائر فادحة، أدرك الخضراويون نوعية المهاجمين. وثق لهذه المعركة فهد السعدي في كتابه "التاريخ السياسي والعلمي للسويق والمصنعة، وقبله وثق لها ج.ج. لوريمير، مؤلف السجل التاريخي للخليج وعمان وأواسط الجزيرة العربية، إذ يكتب لوريمر عن معركتين حدثتا مع الوهابيين، الأولى انتصر فيها الوهابيون عندما أرسل السيد سلطان قوة لتدافع عن السويق التي كان الخطر يتهددها، لكن الوهابيين نصبوا  لها كمينا في أرض وعرة، وأبادوا كل أفرادها تقريبا. المعركة الثانية حدثت عندما حاول الوهابيون المرور وسط الباطنة، فقام أهالي الخضراء بشن هجوم ليلي ناجح، مما أدى بهم إلى طلب مزيد من القوات التي واصلت شق طريقها إلى مسقط، وقامت بتدميرها ونهب مدينة مطرح، مواصلين طريقهم إلى الشرق العماني.

 

يشير الكاتب إلى أن الخضراء بحكم موقعها البحري المتميز، استخدمت شواطئها لتهريب الأسلحة للمعارضين، وأن السيد فهر بن تيمور والسيد نصر بن حمود، كانا يتوليان مهمة تمشيط الساحل، لصد تهريب الأسلحة وجمع المعلومات، معتمدين على مساندة الشيخ صالح بن سيف البريدعي، الوثيق الصلة بالحكومة آنذاك.

 

في سرده لذاكرة الإنسان، يوثق الكاتب لشخصية لعبت دورا سياسيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، المرحوم أبو جمال، ماجد بن سالم بن غصن البريدعي، الذي بدأ  حياته النضالية متعاطفا مع تيار الإمامة، وتولى استخراج وثائق سفر للعمانيين في هجرتهم للبحث عن عمل بدول الخليج. عمل في البحرين وفي الجيش الكويتي، وتجاوز تجربة الإمامة عبر انخراطه في التيار القومي العربي واليساري. ولا يقدم الكاتب تفاصيل عن تجربته النضالية المتميزه، إلا أنه يتطرق إلى مشاركاته في الحراك الطلابي العماني بالقاهرة، ومشاركاته في المسيرات الاحتجاجية بالبحرين، وذلك حتى عودته إلى عمان مع عصر النهضة ووفاته في ١١/٦/٢٠١٤م.

 

كخلاصة للحديث عن الدور التاريخي الذي لعبته الخضراء في تكوين الذاكرة السياسية بعمان، لا يتأتى ذلك بدراستها مستقلة، بل عبر ربطها بمحيطها الجغرافي الأوسع، ودراسة الصراعات السياسية التي دارت في عمان عامة، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات القبلية، ومدى استفادة الأطراف المتحالفة اقتصاديا، وفي ظل صراعات القرن التاسع عشر، الذي شهد تجارب سياسية كان للخضراء والسويق بشكل عام  دور جدير بدراسته، امتد حتى الصراعات السياسية في القرن العشرين، التي عرفت تدخلا عسكريا  لبريطانيا كطرف أساسي حسم الموقف لطرف دون الآخر.

 

يقدم محمد الخضراء المكان الذي يقف في مواجهة الكراهية والصراع، يقف في مواجهة المكان العدائي، وهو أي المكان العدائي يتحدث عنه الكاتب كغياب، لأنه مولع بحضور الجمال وليس بنقيضه، بالعبور القادم نحو الضوء، بالبحر الذي قدم للإنسان رحابة الحياة، بالإنسان الذي نقل هذه الرحابة إلى الغير، البحار خالقة البقاء والرحيل في آن، ينضح منها الحزن والفرح، البكاء على الراحلين دون ان يعودوا، البحر مانح التجدد والبداية ولا نهائية الأشياء.

 

الحميمية تخلقها رحابة الفضاء، لذلك يقدم الكاتب الفرد عبر الجماعة، والجماعة عبر المكان المشترك، وليس عبر ما يخلقه البيت من استقلالية ينعم بها الفرد بأمنه الشخصي المستقل، جمالية المكان هنا تختلف عما قدمه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في دراسته لجماليات البيت والزوايا والشرفات والأروقة، وكل ما يرتبط به الإنسان الحديث من حميمية تشكل ذوقه الجمالي ومدارك خياله وذكريات محبته. لدى الصالحي لا شيء يفصل الإنسان عن جغرافية المكان، وما يضم المروء هنا ليس البيت بل الفضاء، البحر الذي لا يفصلك عن العالم، بل يربطك به وتتحد معه، حتى لا تعرف العزلة مكانا لها في القلب. يضيف محمد في كتابته عن هذا الفضاء الرحب (البحار الهادئة لا تصنع بحارا ماهرا) لأن الترنشيب وهي كبرى سفن الخضراء للحاج أحمد الأنصاري، والتي زفت بالأهازيج الشعبية عبر أزقة الخضراء وطرقها وصولا إلى البحر، كان عليها خوض البحار الهائجة وصولا إلى البصرة ومكران وصلالة وعدن وزنجبار .عالم يكاد يكون ساحرا في بساطته، ما جعل اتحاده الجمالي بالطبيعة سحريا، بعيدا عن أي تصنع وتكلف يخلقه تعقيد المدنية المعاصرة، التي مع قدومها اختفى سحر الخضراء، وعادت الحياة لتشكل أساطيرها الجديدة، بعيدا عن المألوف المكاني والزماني الذي حذا بمحمد الصالحي كتابة الجمال الراحل بحميمية من يدرك دون عودته ثانية.

———————————————————————————

ورقة مشاركة، احتفاء بنصوص ذاكرة المكان العماني /الخضراء لؤلؤة النهار وتغريبة المساء/ للكاتب محمد بن صالح الصالحي. بيت الزبير ٢٦/٩/٢٠١٩

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي