علاجات الحنين.. قراءة كتاب نوستالجيا صوْريّة لمريم الحتروشي

   إبراهيم سعيد 

بيت الزبير 26 سبتمبر 2022



يا لهذه الأبدية التي تتناوب الحيوات بين ظهرانينا

يتقدمون.. وما يزال البحر بعيدًا عنهم.

ص١٦


باقتباسات أدبية مختلفة صوريّة وعمانية وعربية وأجنبية متفرقة على صفحات الكتاب التي لا تتجاوز المائة من القطع المتوسط عبر ٢١ فصلًا يجري هذا النص، مازجًا بين إيحاءات عنوانه المختلفة، فالعنوان نوستالجيا صورية، لكن أهذا الحنين هو إلى صور أو منها، والصورية أهي النوستالجيا أم الكاتبة؟ ولعل قراءة الكتاب ترجح المعنى الثاني، نوستالجيا كاتبة صورية، هكذا يتنقل النص في ردهات ذلك الحنين، لكن بخطوات عاشقة تسلك الدرب الأدبي والفني، ليخرج العمل كأنما هو إضمامة فنية، حليّة أو صوغ أدبي، تعبير متلامع عن حب المكان والشغف به،

ينطلق كتاب نوستالجيا صوريّة بشاعرية الحنين للمدينة البحرية ومنها، ليعيد رسم المشاعر الإنسانية المتعلقة بأحد أركان الأرض، وأركان الحياة في نفس الوقت، العاصمة الشرقية:

وحدها الطبيعة تقود زمام الأبدية هنا.

ص١٥

 

بأسلوب شعري بيّن يعالج هذا العمل موضوعه، أو بالأحرى ما يتجزّأ من موضوعه الرئيس لمواضيع متنوعة وإن بدا أنها مختلفة لكنها متفقة المصدر، لها طابع الحنين نفسه، وهو يختار المعالجة الفنية على غيرها من المعالجات التاريخية أو الأكاديمية، ولذلك يعيد التقاط المشاهد المتسرّبة بين أصابع الزمن ويوثقها، بتعابير لا تعوزها الفتنة في أحيان كثيرة:

نوق متهادية على طريق ضيّق بين جبلين تركل بين أرجلها أشعة الشمس.

ص١٤

لا شك يسكن البحر صور أكثر مما تسكن صور البحر، وكل الأحلام الصورية تتجه إلى ضوء الشمس المتلامع على الموج، هكذا تغدو الضفاف الأخرى للمحيط، فارسية وسندية وهندية الى آخر الأرض، أقرب من صور، ألا تمد صور رأس حدّها بذلك الاتجاه الشرقي بشكل بالغ الدلالة؟ كأنها ذاهبة نحو الشروق، في هذا المناخ الشعري العام ينمو هذا العمل ليقبض على خيالات الشرود الصوريّة:

يتسابقون صفوفًا لإفزاع نوارس اصطفّت صفوفًا تصلّي للبحر.

ص١٠

 

لكن حين يكون المكان هو وطننا ففي ذلك نوعًا من حب الذات، لهذا يحتاج الأمر إلى تبرير قوي، دليل صريح يقنع الآخر بقوة مغناطيس الأمكنة، وهذا المكان بالذات من الأرض، وجذوره الزمنية داخلنا حتى قد تبدو الأمكنة التي هي أكبر منا عادة، أصغر بمقياس زمني مختلف:

نحن نكبر ولكن المدن لا تكبر فينا.. تظل طفلة تركض معنا في الدروب.

ص١٨

 

تبدو صور في هذا النص كأنها بحر وكل فصل من الفصول سفينة مبحرة، والرياح تقود كل سفينة لجهة مختلفة، لكن ميناء الانطلاق واحد، حتى قد يتعرف القارئ على بعض ربابنة النصوص من قوة المشاعر التي يحيطها بهم النص، كأديب صور الراحل ناصر البلال ص٢٢ الذي يردد النص صوته كالصدى:

وصورُ كعبةُ من أزرى الزمان بهِ مذ سلّمَ الكونَ سهمَ القوسِ باريها

ص٢٢

وقد اشتهرت من قبل نظرية الكاتب الراحل ناصر البلال التي هي الأخرى تعبير عن نفس الغرام، ومفادها أن صور بحر عمان هي أصل الفينيقيين الذين أسسوا صور بحر المتوسط، وسواء صحّت هذه النظرية أم لا فإن جغرافيا صور العمانية أوسع بما لا يقاس بحوض المتوسط على ازدحامه، فهي تقابل المحيط، والمحيط بأكمله مسرح بحارتها وأهلها وسكانها منذ قديم الزمن، وهي بموانئها الطبيعية مهيئة للحياة، فكما ينبت العشب في مكان ما بعينه دون آخر، كذلك الأرض تختار مكان الحياة فيها، للناس والكائنات.

 

لكن الكتاب لا يقتصر على الإطلالة الأدبية بل يضيف إليها الإطلالة المكانية والزمانية كما نجدها في فصل دكان عمي مسعود حيث يغازل النص طفولته الأولى وقبلته اليومية آنذاك:

ها هو يقف أمامي الآن بعد عشرين صيف وربيع وخريف وشتاء، يقف أمامي وقفة المتهالك المستجير الذي أنهكه الغياب.

ص٣٢

 

مع ذلك لا يجد القارئ شيئًا من صور المعاصرة اليوم، ربما غير صورة جسر العيجة على الغلاف، ذلك لأن الحنين مسيطر على العمل من عنوانه حتى شرايينه الأورطية، وكأنه يحاول بذلك الحنين أن يقاوم سيل الزمن الجارف، بأغاني الطفولة التي يرددها كالتعاويذ والرقى، ص٣٨، ٣٩، ٧٢، وبالأشعار الشعبية، والتعويبات الجارحة:

وطلعي الجبل طلعي/ وساروا محبّيني/ ومتكسّرن ضلعي/ هيي هيي هيي هيي/ واذكر زمان اول/ يوم الشجر تايه/ وغيابهم طوّل..

ص٦٤

وبمواد مختلفة حتى وإن كان بعضها ما يزال متجاوزًا أمواج الزمن لكنها تظهر في النص مطبوعة ببصمات الذاكرة، كالطير والشجر وقهوة المطوّع الشعيبي:

قمّ دنّ لي من اخضر البنّ يا وليد هبشة كفوفك يا نظيف الملابيس..

ص٤٩

 

الكتاب بلا شك مخلص لعنوانه فهو حنين متجسد كتابيًا، دموع تتلقف الأشياء وتستعيدها وتعاود تأملها، من دفته الأولى حتى الأخيرة حيث يقف نص (احترس) آخر الكتاب ص٨٨ وهو لا يبدو موجهًا إلا لذلك الحنين وتلك الدموع:

احترس من طريق توجعك ظلاله، لا تمش فيه، فقد تنسج الذكريات شراكها حول روحك.

ص٨٨

 

الحنين موضوع قديم، وليس الموضوع بأقدم من الشعور الإنساني الحارّ الذي ندعوه الحنين، هكذا لم تتوقف الكتابة عنه، وكأنه نبع شعري خالد، لكن هل له من علاج؟ يقول الجاحظ في رسالة الحنين الى الأوطان:

قال بقراط يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع لهوائها، وتنزع إلى غذائها.

ص٣٨٧،ج٢، موقع المكتبة الشاملة.

 

لكن الحنين نبيل، تعبير حي عن الوفاء، لذلك نتمسك به وإن كان مؤلمًا، ألا يقول الصمة القشيري:

وأذكر أيامَ الحمى ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعَا

لأن غالب متعلقات الحنين مجروفة إما بالزمن أو بالبعد المكاني، فما مصير الحنين حينها؟ ربما يكون مصيره أن يتجدد، أن يعاود الولادة، أن يبقى كوصية تردد صوتها على مسامع القادم من الزمن، كما يفعل هذا العمل، أن يسكب نفسه في نص للقراء القادمين، أملًا أن يزهر ذات يوم بين خفقات قلب الإنسان. إما ذلك أو أن ينقطع باليأس كما أقسم بالله مرة العدوي غيلان ذو الرمة:

إذا ذكّرتك النفسُ ميّا فقل لها أفيقي فهيهات الهوى من مزاركِ/ وما ذكركِ الشيءَ الذي ليس راجعًا بهِ الوجدُ إلا خفقةٌ من خبالكِ/ أما والذي حجّ المهلّونَ بيتهُ شِلالًا ومولى كل باقٍ وهالك/ وربُّ القلاصِ الخوصِ تدمى أنوفها بنخلةَ والساعينَ حول المناسكِ/ لئن قطعَ اليأسُ الحنينَ فإنهُ رقوءٌ لتذرافِ العيونِ السوافكِ/ لقد كنتُ أهوى الأرضَ ما يستفزُّني لها الودُّ إلا أنها من دياركِ.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي