قطرة ندى من غيوم مزنة المسافر

 

قراءة د. حميد بن سعيد العامري

20/ 9/ 2023م بيت الزبير – سلطنة عمان – مسقط

(مساء الثلاثاء 20 سبتمبر 2023م تم تنظيم امسية سينمائية في مؤسسة بيت الزبير – تم عرض الفيلم السينمائي القصير للمخرجة (مزنة المسافر) وقدم المخرج الدكتور حميد العامري بقراءة فنية، والتي كانت بعض من الومضات الخاصة بالمخرجة والفيلم)

* في عالم تتسلط السينما فيه على المخيلة لدى المتلقي، تتمكن مزنة المسافر العاشقة للصورة وللطبيعة من أن تستكمل نسج ثوبها العماني ورسم لوحتها الخاصة بالمكان الأقرب إليها الذي يمكنها أن تبرز جمالياته الاثيرة بإبداعها الإنساني من خلال ما تقدمه من أعمال سينمائية.

* بداية من (نقاب) الذي لم يكن مشروعا تجريبيا فقط وإنما جواز إثبات شخصيتها السينمائية التي ستظهر ملامحها في أعمالها المتتالية، والتي تلتقطها من شخوص المجتمع الذين تنتمي اليهم إنسانةً مبدعة تستطيع تمييز مكامن الجمال والأحاسيس بما تملكه من مشاعر إنسانية عاطفية تدعوها للتعبير عنها في أفلام قصيرة.

* رسمت مزنة بكاميرتها (تشولو) السواحلي و(بشك) البلوشي و(رحلة دانة) البدوي و(غيوم) الظفاري، وأعتقد أن ألوانها لن تجف ولن تتوقف عدستها إلا بعد أن تشكل لوحتها الفسيفسائية الجميلة للمجتمع العماني الفريد الذي يتوافق مع كل الجماليات الإنسانية لتمنحه ثراء ثقافيا بتنوعه وبتلاحمه كجسد واحد مكون من طاقات وقدرات في وطن يتسع لكل أبنائه المحبين والمخلصين.

* تحضر السينما الواقعية في أعمال المسافر بصورة كبيرة، يحضر المكان المفتوح أو الاستوديو الطبيعي في أغلب أعمالها، والمكان يمثل مواقع حقيقية مثل البحر في (تشولو) والسوق الشعبي في (بشك) وحظيرة الأغنام في (رحلة دانة) وجبال ظفار في (غيوم)، كما تقدم شخوص أعمالها من المجتمع أو القريب من الجانب الفني، فالبعض منهم شارك في أعمال سينمائية بحضور بسيط والبعض يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا، ويحسب هذا للمخرجة وتمكنها من إدارة الممثلين وتحضيرهم بشكل جيد ولافت لتقديم أداء منسجم مع الموضوع.

* تختار مزنة المسافر مواضيع أعمالها من الواقع، قريبة من المجتمع الذي حولها، لا تقدمها اعتباطيا ولكنها تدرس أهميتها وأهمية تسليط السينما عليها، وأعتقد أن تناول مثل هذه المواضيع يحتاج إلى حرص وعدم إفراط، وهذا الذي نجحت في تقديمه المخرجة حيث تمثل مواضيع أعمالها المجتمع العماني، بسبب طريقة السرد وعدم المغالاة بالإضافة إلى تطعيم كل عمل بمفردات وخصوصيات لا نجدها في كل المجتمع.

* نجد اللهجة تمثل ركيزة في كل فيلم، مثل فيلم (تشولو) ومعناها ناصر أو لقب ناصر في اللهجة السواحلية وهي لغة الفيلم، واللغة السواحلية هي لغة رسمية لجمهورية تنزانيا وجمهورية كينيا ولكن يتحدث بها أكثر من 200 مليون شخص منتشرين في أكثر من 14 دولة ومن ضمنها سلطنة عمان، حافظت المخرجة على أن يكون الفيلم بهذه اللغة، بينما فيلم (بشك) الذي كان باللغة البلوشية فيعني الثوب، وهي لهجة يتحدث بها البلوش، كما كانت اللهجة في فيلم (رحلة دانة) لهجة بدوية أو لهجة بدو المضيبي كما أشارت المخرجة. وتحضر اللغة الشحرية أو الجبالية في لغة فيلم (غيوم)، واللغة الشحرية من اللغات السامية التي يتحدث بها سكان جبال ظفار في سلطنة عمان.

* بالإضافة إلى ذلك تحرص المسافر على المحافظة على التنوع الثقافي والفنون التي يزخر بهما المجتمع العماني، فنجد ذلك في الأسماء من خلال (تشولو) والملابس مثل فيلم (بشك) وتنوعها مثل الملابس البلوشية، بالاضافة إلى ملابس االجبالية أو أهل الجبل، ويحضر  الغناء الشعبي في أفلامها حيث نسمع الفن الأفريقي أو السواحيلي في فيلم  (تشولو)، كما نجد عددا من الفنون الظفارية التي تحضر بقوة في فيلم (غيوم) مثل فن الرقص المرباطي والهبوت وفن النانا الظفاري الذي استثمرته المخرجة بجمالياته أثناء الفيلم مثل حفل الزفاف وفي نهاية الفيلم، مع محافظتها على التوازن فلا يطغى الغناء على سرد الحكاية. ولقد استطاعت المخرجة توظيف هذه الفنون الشعبية بدون الحاجة إلى موسيقى تصويرية فكانت تضيفها إلى العمل  وكأنها ترسم لوحة.


* بالرغم من تصوير نسبة كبيرة من الأعمال السابقة للمسافر بالهاتف، إلا أن فيلم (غيوم) تم تصويره باستخدام كامير (RED) السينمائية التي تستخدم في تصوير الأعمال السينمائية الاحترافية، ويظهر ذلك في جودة لقطات الفيلم، بالإضافة إلى وجود فريق فني أوروبي (فرنسي وإيطالي) كان على رأس تنفيذ العمل، مما ساهم بشكل كبير في جودة المحتوى الفني للفيلم.

* تقدم مزنة المسافر فيلم (غيوم) من خلال طرح عميق لشريحة مجتمعية جديدة، شريحة يتكون منها المجتمع العماني وتقدمها بصورة سينمائية، من خلال ملامستها المجتمع الجبالي الذي يعيش في جبال ظفار، من خلال قصة بسيطة تمكنت من طرحها بإسقاطات ذكية على التحول المجتمعي وروح التصالح والتسامح والنظرة المستقبلية التي تعايش معها أبناء المجتمع لمستقبل مشرق برغم الغيوم التي تعبر بين الحين والآخر.

* (تعيش النمور بين الناس) بهذه العبارة تتمكن المسافر من الاستحواذ على اهتمامنا، طيلة الربع ساعة التي تشركنا فيها من خلال الترصد والترقب للنمر الذي لن نراه إلا من خلال هيمنته على المشاعر المبثوثة في الكلمات الحوارية بين الشخصيات لنترقبه طيلة الفيلم كترقب الطفل عمر في اللقطة الاخيرة واستعداده للقضاء على من يحاول أن يقشع الأمن والاطمئنان والسلام في أسرته الصغيرة. وكما بدأت اللقطة الأولى للفيلم بعيون دبلان المتربصة ببندقية صيد للنمر، تقدم لنا المسافر اللقطة الاخيرة لدبلان وابنه عمر الذي يمسك البندقية وينتظر اصطياد النمر، لتترك لنا نهاية مفتوحة يمكننا أن نؤول حكاية جديدة لم نشاهدها في الفيلم.

* يتناول الفيلم قصة دبلان الذي يقيم الأوضاع بعد أن تركت الحرب أوزارها، فيشعر المشاهد بالحمل الذي ينوء به من خلال تذكره المستمر للناس الذين فقدوا أو ماتوا بالخطا، مثل زوجته، والدمار التي أصاب الحياة سواء كان دمارا ماديا أو دمارا معنويا مثل اليأس والعبودية والجهل، وغياب العادات والتقاليد كما يتضح من خلال سلوك الفتيان الذين وقفوا في طريق الفتاة وأخيها، فيجد دبلان أن اهتمامه بأسرته من خلال التعليم أفضل ما يمكن أن يقوم به، وهو ما ظهر في تعاونه مع طفله عمر لتجفيف الكتاب المدرسي، وفي مساحة الحرية التي يمنحها لابنته لتذهب لحفل زفاف يقام في القرية، أو في الحوار الصريح مع ابنته المراهقة في حقيقة مشاعرها ودعمها في بناء مستقبل أفضل من خلال تسليمها حبات اللبان التي استلمها من سالم الذي يكن لها المحبة، فضلا عن تصالحه مع نفسه ومع المجتمع.

* في حين ننتظر ظهور النمرالحيوان، يظهر النمر الإنسان من خلال الشيخ مسعود الذي يحوم بنظراته وتقدمه لالتهام سلمى، ولكن دبلان صياد النمورالذي عرك الحياة، استطاع أن يصده، ويمنح سالم الدافع ليحميها من باقي السباع التي مازالت تعيش بجلود مختلفة.

* رمزية اللبان لما يبثه من رائحة منعشة بالمكان، أو كطارد للجن والشياطين كما يعتقد البعض، ولكن رمزية اللبان هنا تؤشر إلى العلاقة القوية التي تربط الانسان بالمكان وبمن حوله، وهي رمزية المحبة بين سلمى وسالم، رمزية القوة والأهمية حيث يكون أساسا قويا لبناء الأسرة.

* تنوعت لقطات الفيلم ولكن أظهرت ثبات الكاميرا في اللقطات الواسعة بنسبة أكبر  في العديد من المشاهد، كذلك توجد مشاهد لكاميرا متنقلة،  بالإضافة إلى عدم التقطيع أثناء الحوار وينم هذا عن دراية المخرجة في توصيل الحكاية، فليس هناك حاجة إلى التقطيع إلا عند الضرورة، فزوايا التصوير كانت جيدة، ولكن بعض زوايا التصوير لم تكن مقنعة مثل زوايا التصوير الكتفية، وكذلك كانت العديد من اللقطات تؤخذ من خلف الشخصيات، وربما أردات المخرجة أن تشير إلى أن الشخصيات تواصل الحياة وتترك خلفها الماضي بدون الالتفات إليه.

* بالنسبة للإضاءة، فقد استفادت المخرجة من الإضاءة الطبيعية، التي منحت الفيلم رؤية خاصة به، مثل الإضاءة الخارجية أو إضاءة الحطب المشتعل أو إضاءة القنديل، وفي بعض المشاهد شكلت الإضاءة ضعفا في الصورة الفنية ولكن أعتقد أنها كانت الحل الوحيد بالنظر إلى ظروف تصوير العمل.

* فيما يخص الألوان فقد طغى اللون الأخضر على الفيلم، وهذا اللون مريح جدا للمشاهد وهو اللون الذي نشاهده في مناظر الجبال التي تكتسي بالحشائش الخضراء، وهو لون النماء والإلهام، كذلك ألوان الملابس تناسب البيئة والمجتمع وحالة الشخصيات، حيث يظهر دبلان بملابس ألوانها فاتحة قريبة من البياض ما يدل على حالته النفسية في تحوله إلى تطهر داخلي بسبب الظروف التي عاشها وقراره بأن يكون القادم أفضل، وأن يكون متسامحا لدرجة عدم استعداده لقتل الحيوان الذي يفترس حيوانات الأهالي في القرية، بينما ملابس الشيخ مسعود كانت ألوانها قاتمة ما يدل على أن الشخصية مازالت تحت تراكمات الماضي.

* بالنسبة للديكور وتأثيث المشهد السينمائي، فقد استخدمت المخرجة قطع التأثيث من البيئة العمانية وتم استثمارها بشكل جميل؛ نجد ذلك في بيت دبلان الذي تمنينا لو أن الكاميرا أخذته من زوايا عديدة، فقد شدنا الباب والنوافذ التي تتكون من  قطعة جلد أو قماش، وموقد النار وإبريق الشاي، والحطب الذي يوضع داخل البيوت لاستخداماته المتعددة وللمحافظة عليه من الأمطار بسبب الأجواء الخريفية، والأدوات التي تستخدم في الطبخ، والقنديل للإضاءة، والمرآة والمكحلة، والمجمر والبخور، وأداة التنظيف (المجمعة)، والملابس مثل الحبل الجلدي (المحفيف) الذي يلف على رؤوس الرجال ، وثوب النساء الظفاري، وملابس الرجال ، وقلادة النساء التي تزين العنق، والعصى والبندقية التي نراها مع شخصيات الفيلم، والتي تشير إلى تلك المرحلة التي يحرص فيها الرجال أن يظهروا أمام الآخرين بما يعطي انطباعا بالقوة والمهابة. كذلك نجد مشهد استخدام الخنجر في تقطيع اللحم (المقدد)، وهذه دلالة على استخدام الأدوات في مواضعها وليست مجرد ديكور، أما نوافذ البيوت في المدينة أالوانها زاهية تعطي منظرا جميلا. تهتم مزنة بكل الجزئيات البسيطة وتشتغل عليها بدون إفراط.

* بما أن الفيلم يتناول أحداثا في عام 1978 في المنطقة الجبلية، وددنا لو تعرفنا على احتفالات الزفاف في الجبل، وليس في المدينة. وكذلك يظهر طريق مسفلت في إحدى اللقطات ولا أعتقد أنه أضاف للعمل إلا إذا قصدت المخرجة بأن التنمية تبدأ من الطريق.

* استطاعت المخرجة الحصول على دعم إنتاجي جيد من عدد من المؤسسات مثل مؤسسة الدوحة السينمائي ومؤسسة بيت الزبير ومطارات عمان والجمعية العمانية للسينما والعديد من المؤسسات التي عُرضت في نهاية الفيلم، وهو من إنتاج شركة السديم وعز العالمية، وهذا جيد لأن صناعة السينما تحتاج إلى دعم مادي لتقديم الأفضل، ويحتاج صناع الأفلام إلى الرعاية والاهتمام حتى يمكنهم تقديم أعمال لها قيمة فنية.

·       يمكنني أن أهنئ مزنة المسافر على هذا العمل الجميل وهي ما فتئت تتحفنا كعادتها بتقديم أعمال متميزة من دون أن تتنازل عن الجودة.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي