الرؤى المحتجبة في أدب عبد العزيز الفارسي

 

الرؤى المحتجبة في أدب عبد العزيز الفارسي

"البحث عن المعنى في القصص القصيرة"

الباحث أحمد الحجري

بيت الزبير- 8 مايو2024

 


ما الدلالات الكامنة في قصص عبد العزيز الفارسي؟ وما التحولات التي شهدها المعنى في المجاميع القصصية التي نشرها؟ وما الذي يخبئه السرد من دلالات ورؤى خلف هالات من السخرية في قصصه الأخيرة؟ هل يمكن للقارئ أن يقف على رؤى محتجبة خلف السرد القصصي في أدب عبد العزيز الفارسي؟

تلك جملة من الأسئلة راودتني وأنا أستعيد قراءة المجموعات القصصية للكاتب والأديب العماني عبد العزيز الفارسي، المجموعات القصصية ذاتها التي جمعتها لنا دار نثر في مجلد واحد حمل عنوان: " الأعمال القصصية الكاملة: عبد العزيز الفارسي"، وصدرت أوائل هذا العام بمراجعة من الكاتب والإعلامي: سليمان المعمري.

ولكن لم نطرح سؤلا من قبيل ما الرؤى المحتجبة في أدب عبد العزيز الفارسي في ورقة تروم البحث عن المعنى في القصص القصيرة؟ أعتقد أن واحدة من ميزات نشر الأعمال الكاملة لكاتب ما هو القدرة على الرؤية الشاملة، والنظرة التحليلية الواسعة مع ما يصاحب ذلك من فحص دقيق، ومقارنة موضوعية لتجربة الكاتب، خاصة إذا كان الكاتب قد غادر دنيانا، ومن ثمَّ أصبحت تجربته الأدبية في عداد المكتملة. والحال أن عبد العزيز الفارسي (توفي عام 2022) قد شهدت تجربته الأدبية تحولات يستطيع القارئ تلمسها وهو يقرأ قصص كل مجموعة ثم يقارن كل مجموعة قصصية بالمجموعات القصصية الأخرى[1]، بل يستطيع القارئ أن يرى مدى التحول الفني والتقني الذي شهدته المجاميع القصصية الأخيرة ليدرك أن تجربته القصصية شهدت تطورات وصلت بها إلى مرحلة النضج الفني. ولكن كيف حدث ذلك التحول؟

يمكن أن نقسّم تجربة عبد العزيز الفارسي القصصية -إذا ما استثنينا مجموعته "مسامير" بوصفها تنتمي إلى القصص القصيرة جدا- إلى مرحلتين: الأولى يمكن أن نطلق عليها مرحلة: "البدايات والرومانسية الشعرية"، وأصدر خلالها ثلاث مجموعات قصصية هي بحسب تاريخ نشرها: (1- جروح منفضة السجائر، 2003، 2- العابرون فوق شظاياهم، 2005، 3- لا يفلّ الحنين إلا الحنين، 2006)، وهي كما تشي عتباتها (جروح- شظايا- حنين...إلخ)، ومضامينها السردية يغلب عليها الطابع العاطفي والشاعري، وتطغى عليها المنولوجات الداخلية، و تدور معظم قصص تلك المجاميع  حول ثيمات الألم والفقد والرحيل والموت والمرض والحزن والحب المعجون بالغياب والفراق والوجع، ويمكن للقارئ لأي من قصص تلك الفترة – مع وجود استثناءات قليلة- أن يلحظ غلبة اللغة الشعرية على قصص تلك المرحلة، وهي السمة الغالبة على كتّاب القصة القصيرة في عمان خلال عقد التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة. نقرأ مثلا من قصته الأولى (المسيّرون) من مجموعة (جروح منفضة السجائر): " هذا المساء يفتّ في عضد الأماني. يشوّش عليّ لحظات الجنون. ينثرني وأنا المبعثر في متاهات زمن جُرّ من سلطاته. كان لغيري أن ينام في جوٍّ دافئ كهذا. جوارحي تأبى ذلك. قل لي بربك: أي خدعة كبرى أمارسها كي أنام وألف طعنةٍ تسكن جفنيّ؟ أمطرتني الأحزان فما بكت عليّ سحابة، فعلام أحزن أو أبكي؟"[2]، ونقرأ أيضا من قصة (في منطقة حظر التجاوز) من مجموعته القصصية (لا يفلّ الحنين إلا الحنين): "على هامش لحظةٍ مسكونة بروح التمرد؛ تُفلتُ من قيد الزمان، قررنا أن يكون الموعد المنتظر. المكان نفسُه حيث التقينا أول مرة كعاشقين للانعتاق، وتفاصيل اللقاء رهائن بيد تلك اللحظة، إذ المسافةُ جرحٌ غائرٌ في عمق التلاحم، والجو سحب سوداء كثيفة تحتقن بموتٍ قرمزي ينذر بالاقتراب، وأفقٍ مطعونٍ بحتمية اللقاء"[3].

يمكننا أن نلحظ في قصص هذه المرحلة التقاطات سردية، وومضات قصصية، يبدو معها الكاتب كأنه مصور محترف يحبس أنفاس اللحظات الرومانسية، والأحداث الاجتماعية ليقدمها للقارئ في إطار سردي مختزل، ككاتب قصة يعي تماما شروط القصة القصيرة، وحِرَفية صياغتها كما نجد ذلك في قصص: (ذاكرة، عزلة، قمقم) مثلا من مجموعة (لا يفل الحنين إلا الحنين)، كما يعتمد أحيانا على المفارقات السردية بين بدايات الأحداث القصصية ومآلاتها أو مصائر شخوصها كما نجد ذلك مثلا في قصص: (إرث الكلاب، طقوس الصمت، لك المسير... ولي هم الوصول، ذاكرة، قمقم، رسائل).

يلاحظ القارئ للمجاميع القصصية الثلاث الأولى وجود بعض القصص التي حاول الكاتب فيها أن يتلمَّس طريقه السردي الذي سيتشكل بطريقة واضحة ومتكاملة ابتداء من المجموعة القصصية الرابعة (وأخيرا استيقظ الدب). إن قراءة عدد من قصص المجموعة القصصية الثانية والمعنونة بـ (العابرون فوق شظاياهم) مثل: ( أيهم عبر خط بارليف أولا- إرث الكلاب –  الرادار – لذا قررت الآتي- عمتي لا تعرف نجيب محفوظ - طقوس الصمت – الدعاء) إن قراءة هذه القصص تعطي القارئ انطباعا أن الكاتب يبحث من خلالها عن صوته السردي، ويشقّ دربه في غابة السرد -عبر طرقها الفنية- بصنع بصمته الخاصة، ففي هذه القصص نجد إرهاصات ما سيكون عليه نمط قصص عبد العزيز الفارسي في المجموعات القصصية الأخيرة، هنا نلحظ أيضا أنه يركّز على الحكاية بدل اللغة الشاعرية، وعلى الحوار الخارجي بدل المونولوج الداخلي، وهنا أيضا يستكشف أثر توظيف السخرية في إكساب القصة متعة تشويقية وديناميكية، بالإضافة إلى الاشتغال على المفارقات السردية والتناقضات الداخلية للشخوص، إن هذه القصص تنبئ عن محاولة التجريب والاقتراب من صناعة الصوت السردي الخاص للكاتب، لكن هذه القصص مع كل ذلك تفتقد للمعنى العميق الغائر خلف كثافتها السردية، إنها تفتقد لشيء رئيس يطوق قصصه اللاحقة، ذلك الشيء يمكن أن نطلق عليه (الروح الدلالية) أو (السردية الديناميكية) التي ترصّع المعنى في مفاصل القصة، وتفجّر فيها قضايا ورؤى عميقة من روح المجتمع العماني سواء من حيث بناء الشخصيات أو طريقة توظيف اللغة أو اختيار عنصر المكان ليكون بؤرة سردية تلملم الشتات الدلالي للقصص السابقة.  وهذا الأمر سينتبه له الكاتب بوعي سردي، ونضج فني في المجاميع القصصية الأخيرة، وهذا هو الفرق الكبير بين استثناءات قصص هذه المرحلة الرومانسية، وبين مثيلاتها من قصص المجاميع الأخيرة، ويمكننا أن نعتبر هذه القصص تهيئة لمشروعه الناضح الذي ستتضح معالمه بشكل جلي في المجموعات القصصية الثلاث الأخيرة.

غلبة اللغة الشعرية، والمونولوجات الداخلية، والتوهج العاطفي الذي تبثه أحداث القصص مع التركيز على ثيمات الحب والفقد والموت والحزن، وسم تلك المرحلة من كتابات عبد العزيز الفارسي بسماتها فخفتت بموجبها الرؤى والدلالات العميقة في أغوار النصوص القصصية -مع بعض الاستثناءات هنا وهناك كما ذكرنا سابقا- والنص القصصي كما بتنا نعلم اليوم محتاج إلى ميكانزمات سردية ليفجر طاقاته الدلالية، وهو الأمر الذي سينتبه له عبد العزيز الفارسي بوعي قصصي، ونضج فني، وإدارة سردية احترافية ابتداء من مجموعته القصصية (وأخيرا استيقظ الدب) كما سنبين ذلك فيما يأتي.

ابتداء من هذه المجموعة وما تلاها، تبدأ المرحلة الثانية من تجربة عبد العزيز الفارسي القصصية، وهي تضم مجاميعه القصصية الثلاث الأخيرة، نوردها بحسب تاريخ نشرها: (1- وأخيرا استيقظ الدبّ، 2009، 2- الصندوق الرمادي، 2012، 3- رجل الشرفة؛ صياد السحب، 2016)، ويمكننا أن نطلق على هذه المرحلة: "مرحلة دينامية السرد والرؤى العميقة"، وفيها تشهد قصصه تحولات شكلية، وأخرى مضمونية على صعيدي اللغة والموضوعات، وهناك إشارة خاطفة مواربة يشي بها عنوان أول مجموعة قصصية في هذه المرحلة، ونقصد به (وأخيرا استيقظ الدبّ).

على عكس معظم العناوين التي عنون بها عبد العزيز الفارسي مجموعاته القصصية، والتي يمكن للقارئ أن يجد لها إشارة أو تلميحا أو عنوانا داخل إحدى قصص المجموعة، على العكس من ذلك يجد القارئ صعوبة في الربط بين العتبة الرئيسة لهذه المجموعة، والقصص المنضوية تحتها، وهي سبع قصص تحمل عناوين (المستثمر، أبو عيون، عمتي تعرف نجيب محفوظ، سعيد المخياط، الحريق، التحدي، الشيخ الشمسوني)، لا رابط أو إشارة إذن بين هذه العناوين، وعنوان المجموعة القصصية (وأخيرا استيقظ الدبّ)، فما المعنى الكامن وراء ذلك؟

يبدو لي أن هذه المجموعة تشكل علامة فارقة في تجربة عبد العزيز القصصية، إنها تمثل المرحلة الانتقالية بين المرحلتين، أو قل بداية الانقلاب الفني والتطور السردي في تجربته القصصية بين مرحلة اتسمت باللغة الشعرية والثيمات الرومانتيكية، ومرحلة سرد الحكايات والرؤى المحتجبة في أغوار النصوص السردية، هنا يستيقظ الدب من سباته السردي سواء من حيث المدة الزمنية الفارقة بين آخر مجموعة قصصية نشرها (2006)، أو من حيث تمكنه من القبض بتلابيب فن القصة القصيرة، وفهمه العميق لها، نعم يستيقظ الدب المترهل بالفرو الشاعري، والمتخم بالتشعبات الثانوية بعيدا عن بؤرة الحدث القصصي، والمتشبع بالمنولوجات التي تبطء حركة السرد ليسلك خطا جديدا في إتقان فن القصة، ويسير في درب الغابة السردية بتوهج ويقظة ومتعة، لذلك فإننا نستطيع الآن أن نجد في كتابات عبد العزيز الفارسي قصصا قصيرة تتسم بالقدرة على سرد الأحداث دون عوائق شعرية، وإمتاع المتلقي بحكايات تمتح من خيال سردي متشعب، وتبثّ روح التشويق في مفاصل القصة مع روح دعابة وغلالة من سخرية تخفي وراءها عمقا دلاليا، ورؤى اجتماعية تحفر في الشخصية العمانية، وتتناول قضايا، وتقدّم نقدا، وتجترح رؤى بعيدة الغور من صلب المجتمع العماني نفسه.

في هذه المرحلة يمكننا أن نقف على تطور التجربة القصصية عند عبد العزيز الفارسي، وقد اتسمت معظم قصص هذه المرحلة بطابع السخرية، وكوميديا المواقف المختلفة، وفكاهية الأحداث، وصناعة اللغة الخاصة بالمجموعة، كما استطاع الفارسي في هذه القصص أن يوظف اللهجة العامية الشناصية في سرد الأحداث، وبناء الحوارات بطريقة سلسة متفردة، جعلت من اللغة المحكية عنصرا رئيسا في بناء المعمار السردي للقصص، وفي رسم الشخوص، وإعطائها بعدا اجتماعيا ديناميكيا، وأخيرا في بلورة تقنية (السخرية) كأسلوب سردي تحجب تحت غلالتها الشفيفة معاني ورؤى متعددة.

هذه المعاني والرؤى المحتجبة في أغوار قصص المرحلة الثانية ستشهد بدورها تحولات وتطورات من مجموعة قصصية إلى أخرى، وسنحاول فيما يلي أن نقف عند أبرز التحولات التي شهدتها الدلالات الخفية في قصص كل مجموعة على حدة بحيث نستطيع القول إنها اتخذت من السخرية ستارا تختبئ خلفها:

1-      (وأخيرا استيقظ الدب، 2009):

في هذه المجموعة التي شهدت بداية التحول نحو تعميق المعنى الدلالي للقصص كما أشرنا إلى ذلك آنفا، نستطيع القول إن جميع قصص هذه المجموعة تناقش قضايا اجتماعية معاصرة تلامس الشأن العماني، بل وتحفر عميقا في طبيعة الشخصية العمانية، وطريقة تعاملها مع عدد من القضايا ذات الشأن العام، وهنا أستطيع القول إن قصص هذه المجموعة وما بعدها، بأحداثها، وشخصياتها، ومكانها، وإن بدت شناصية بامتياز (نسبة إلى ولاية شناص التي ينتمي إليها عبد العزيز الفارسي)؛ فإنها تعبر تعبيرا دقيقا عن الشخصية العمانية وليس فقط عن الشخصية الشناصية، صحيح أن الأماكن التي أشار إليها الكاتب هي أماكن شناصية مثل (سور العبري -مطعم ألطاف – منطقة أبو بقرة- السباخ- مدرسة سعد بن أبي وقاص...إلخ) لكنها إنما تمثل صورة مصغرة عن المجتمع العماني بأسره بمناطقه وشخصياته ومدارسه ومطاعمه.

إن شناص في قصص عبد العزيز الفارسي تمثل كل ولاية من الولايات العمانية أو على الأقل معظمها وهي تتشابه فيما بينها، ولذلك فإن القضايا التي تطرحها قصص هذه المجموعة هي قضايا اجتماعية عمانية حدثت وتحدث في معظم الولايات العمانية، وهي من قضايا الرأي العام والشؤون الاجتماعية العامة.

عودة إلى قصص هذه المجموعة نجد أنها تتناول عددا من القضايا من داخل المجتمع العماني دون أن يقدّم الكاتب حلولا لهذه القضايا فليس من شأن الفن القصصي تقديم حلول أو معالجة للمشكلات بقدر تسليط الضوء عليها في قالب سردي دون تدخلات من الكاتب سوى ما تفرضه أحداث القصة، إن قصة (المستثمر)، وهي أول قصة في المجموعة تطرح قضية طالما أرّقت عددا من العمانيين، وأوقعتهم ضحايا في أتونها، إنها قضية (استثمار الأموال)، وفكرة (الربح السريع)، ومحاولة (اجتياز خط الفقر إلى الغنى بأيسر السبل)، وهي تطرح تساؤلات حول ما حدث للعمانيين من استغلال ونصب واحتيال من قبل بعض المستثمرين الأجانب، ووقوعهم ضحايا لتلك الاستثمارات المشبوهة، في حين تناقش قصة (أبو عيون) قضية العين والحسد المتغلغلة في صلب الوعي الجمعي لدى شريحة واسعة من المجتمع العماني، وقد قدّمها الفارسي في قالب كوميدي لا يخلو من سبر لتفكير الشخصية العامية العمانية، وفي قصة ( عمتي تعرف نجيب محفوظ) نجد الفارسي يناقش قضية عاملات المنازل، وما سببه وجود العاملات في بيوتات العمانيين من مشكلات اجتماعية لا حصر لها. أما قصة (سعيد المخياط)، فهي من القصص التي تتناول قضية (الجمعيات المالية والقروض البنكية)، وهي من القضايا المجتمعية المعاصرة التي تمس واقع الكثير من الناس اليوم حالها حال القضايا السابقة، وفي قصة (الحريق) يناقش الفارسي مشكلة البعد المكاني والتأخر الكبير من قبل الدفاع المدني في إخماد الحرائق، وهو الأمر الذي ينسحب أيضا على الخدمات الصحية وغيرها. أما قصة (التحدي) فلها دلالات سياسية عميقة خاصة في فهم علاقة السلطة المستبدة وطغيانها في بروز الثورات ضدها، والتفكر في المعنى الغائر لأحداث الحكاية، واختيار اسم البطل (يحيى) يجعلنا نفكر في المعنى المحتجب في مضمون هذه القصة التي تحفر عميقا في الفكر السياسي، وكيف يخلق الظلم والقهر الذي تمارسه السلطات تحديا لا يتوقف من قبل الشعوب. وفي القصة الأخيرة المعنونة بـ (الشيخ الشمسوني) يناقش الفارسي قضية مجتمعية تتعلق بطبقة شيوخ القبيلة وصراعاتهم مع حديثي العهد بالنعمة والأموال، وهي أيضا من القصص التي تضرب بأركانها في المنطق الفكري والعقلي لطبقة الشيوخ، وتحزبهم ضد من يقترب من نسيجهم المخملي.

ونحن نرى بالمجمل أن الفارسي في هذه المجموعة القصصية ارتقى بمضامين قصصه ليناقش قضايا ومشكلات اجتماعية معاصرة تمس كافة أطياف المجتمع العماني، وذلك دون الإخلال بجودتها الفنية، فهذه القصص خلت من الخطابية والمباشرة، كما تخلصت من الزوائد الشعرية، والتوهج العاطفي لصالح البناء السردي المحكم ليترك القارئ في نهاية كل قصة في حالة من التبسم والصدمة يدرك معها- إذا ما كان واعيا- مدى تغلغل الأزمات في عمق الواقع العماني، وكيف تدار مجتمعيا.

2-      الصندوق الرمادي، 2012

في المجموعة القصصية الثانية (الصندوق الرمادي) من المرحلة الثانية، والتي اختار لها الفارسي عنوانا لافتا ينتقل الكاتب من مناقشة القضايا الاجتماعية إلى توجيه النقد إلى عدد من القضايا، والظواهر التي تتغلغل عميقا في الوعي الجمعي لدى شرائح متعددة في المجتمع العماني.

صحيح أن عنوان هذه المجموعة مقتبس من إحدى القصص المعنونة به، لكنه كما أشار الفارسي نفسه في إحدى الحوارات الإذاعية أعمق من ذلك، فهو يشير إلى المعنى المبطن الرابط بين قصص هذه المجموعة، ولا شك أن القارئ في نهاية قراءاته لهذه القصص ستتكشف له الرؤى المحتجبة خلف السخرية الطاغية لقصص هذه المجموعة، إنها صندوق رمادي غامض لا يمكن التنبؤ بما في داخله، بل إن الرؤى المحتجبة داخله لا يمكن فض أختامها ما لم نسبر أغوار الطبقات المنسوجة بحرفية في كل قصة على حدة.

إن قصصا مثل (المطوع)، و(ما سمعت أذان الملائكة)، و(عيسى عدو الصليب)، و(صمام الشيخ) تفتح الباب على مصراعيه لمناقشة إحدى التابوهات المحرمة، وهو (الدين) بوصفه من المؤثرات الوجودية التي تلعب أدوارا مصيرية في حياة الناس، لا يناقش الفارسي مثلما فعل في المجموعة السابقة قضية (الدين) ودوره في حياة الناس، إن الصندوق الرمادي الذي يحاول فتحه وهو يناقش موضوعا حساسا مثل الدين يحتاج إلى مهارة قاص محترف يملك كافة الأدوات السردية، والمهارات الفنية التي  يستطيع من خلالها أن يلعب على وتر هذه القضية دون إثارة الزوبعات.

إن النقد الذي يوجهه الكاتب للتدين الشكلي عند شريحة واسعة من فئات المجتمع يختبئ في إطار قصص مجتمعية ساخرة، يخرج منها القارئ العادي بابتسامة تعلو محياه دون أن يدرك المعنى العميق للنقد الذي سلَّطه الكاتب للتفكير الديني المهيمن في الوعي المجتمعي. إن تلك القصص مجتمعة تطرح تساؤلات مهمة وشائكة للدور الذي يلعبه الدين في حياة الناس، والتناقض الصارخ بين التدين الظاهري، والممارسات اليومية لبني البشر وما يفرضه الدين عليهم، بل تكشف بعض القصص مثل (عيسى عدو الصليب) عن الفهم الشكلي للدين بدل التعمق في فهم مراميه ومقاصده الحقيقية للدرجة التي يصبح فيها المسلم عدوا لدينه!

عدا ذلك يمكن أن نقف عند نقد ضمني يوجهه الكاتب للتأثير الميتافزيقي، وقصص الجن على العقلية العمانية من خلال قصة (رمانة)، والسذاجة المعرفية عند العوام، وتأثيرها على تفكيرهم، ونظرتهم المحدودة في بعض المشاريع التي هي في الأصل لخدمتهم في قصة (الصندوق الرمادي). أما قصة (صمام الشيخ) فقد استطاع الكاتب من خلالها أن يوجه سهام نقده للفساد الديني والسياسي والأخلاقي المتغلغل في مفاصل المجتمع سواء من بعض الذين هم على رأس الحكومة، أو عند بعض شيوخ القبائل، وأفراد المجتمع، وقد وجه الكاتب سهام نقده للفساد بذكاء وحصافة دون أن يقع في المحظور، بل قد لا يشعر القارئ بذلك ما لم يقف باحثا عن ذلك النقد المحتجب وراء قصة طريفة ساخرة لاستبدال صمام في القلب لأحد شيوخ البلد.

3-      رجل الشرفة؛ صياد السحب، 2016

في المجموعة القصصية الأخيرة لعبد العزيز الفارسي، وانطلاقا من عتبتها الأولى نستطيع أن نتعرف النقلة النوعية التي حدثت في هذه المجموعة، فمن مناقشة القضايا الاجتماعية في مجموعة (وأخيرا استيقظ الدب)، إلى توجيه سهام النقد لعدد من القضايا والتابوهات في مجموعة (الصندوق الرمادي)، إلى إعادة مناقشة عدد من القضايا المجتمعية، وتوجيه سهام النقد في عدد من الموضوعات، وبث الرؤى المستقبلية في مجموعته القصصية (رجل الشرفة؛ صياد السحب).

انطلاقا من عتبة العنوان  التي تشير إلى التطلع إلى الآفاق البعيدة، واستشراف المستقبل، واصطياد الأحلام والأمنيات نجد الفارسي في هذه القصص يجمع ما تفرق في مجموعتيه القصصيتين السابقتين، فهو يتناول قضايا اجتماعية مسلطا الضوء عليها مثل قضية الخيانة الزوجية في قصة (أربع دقائق)، ويوجه سهام النقد لمظاهر التدين الشكلي في قصة (حبل الخلاص) حيث يصبح حبل الخلاص حب مشنقة في مفارقة واضحة المعالم، ونجده يغوص عميقا في الشخصية العمانية برؤاها الدينية ومرجعياتها الأصولية كما في قصة (السترة)، وقصة (الملاك الحارس)، أو يقدّم نقدا للبنية التحتية للطرق والمواصلات كما في قصة (طفلة الظلام).

لكن ما يشدنا أكثر في هذه المجموعة القصصية هو التجريب القصصي الذي وظّفه عبد العزيز الفارسي في بعض قصص المجموعة، مما يمكن أن يندرج تحت صنف (الخيال العلمي)، وذلك في قصتي ( النقطة)، و (الرائحة)، وحين نتأمل مليا قصة (النقطة) ذات التجديد الشكلي بحيث يصبح فيها الهامش متنا، نجد الكاتب يبث رؤاه العميقة خلف ستائر السخرية المبطنة، إذ ينظر رجل الشرفة إلى عمان ومستقبلها المركزي عالميا، وينظر إلى أبنائها وهم يحصدون الجوائز العالمية، ويتحصلون على براءات الاختراع، وما يمكنها أن تقدم للعالم، لولا حوادث السير المميتة التي تقضي على حلم الشباب في مفارقة عجيبة تنضح بها أحداث القصة.

أما القصص الثلاث الأخيرة من هذه المجموعة والمعنونة بـ (قهوة – رثاء – حب) فكأنما نجد الكاتب يرثي فيها نفسه، ويستشرف نهاية حكايته في هذه الحياة بطريقة غير مباشرة. وهذه التلميحات نجد لها صدى في قصصه السابقة التي ما فتئت تصدمنا بعباراتها ورؤاها حول الموت والنهاية الحتمية، والاستعداد للحظة الفراق. يقول الفارسي في قصة (لذا قررت الآتي...) من مجموعته (العابرون فوق شظاياهم) على لسان حمدان الشبر: "تركت السوق والخوف يملأ صدري. راودتني فكرة أن هذا الرجل ليس من البشر، إنما رسالة سماوية تنذرني باقتراب أجلي"[4]، ويقول في قصة (نامي.. ليستيقظ الدمع ويحكي) من المجموعة السابقة نفسها: " لحظة رأيت اجتماعهم قبيل الظهيرة، ساقني حدسي إلى الموت"[5]، وفيها يقول أيضا: " سيدي الموت: إن جئت على غفلة فمرحبا بك، وإن استأذنت بمرض عضال فعلى الرحب والسعة. لن أردّك. لا حبًّا ولكن رغبة في معرفة المطلق"[6]، أما قصة (أخائف من الموت يا أبا هاجر؟!!) من مجموعته (لا يفلّ الحنين إلا الحنين) فلا يخفى على القارئ مضمونها، فهي أشبه بقصيدة رثاء عن الحب والألم والمرض والفراق والموت والحزن، يقول الطبيب البطل في نهايتها مع مريضه المصاب بالسرطان: "جلست معه حتى فارق الحياة. كتبت بنفسي شهادة رسمية تثبت وفاة بعضي وسلمتها لذويه"[7].

إن قيام المجموعات القصصية الثلاث الأخيرة لعبد العزيز الفارسي على أسلوب السخرية، وسرد الأحداث القصصية أخفت في تضاعيفها رؤى ودلالات لم تكن سمات المجاميع القصصية الأولى بلغتها الشعرية وتوهجها العاطفي لتسمح بتمريرها بهذا العمق، لذلك يمكننا في الختام أن نخرج بنتيجة نقدية بناء على القراءة التحليلية لقصص المجموعات الست، والمقارنات التي عقدناها بين كل مجموعة والأخرى. هذه النتيجة النقدية مؤدّاها أنه كلما ازداد توهج اللغة الشاعرية في القصص، وتوفرت على قدر كبير من المنولوجات الداخلية، وخفتت معها حركة السرد أدى ذلك إلى انخفاض مستوى العمق الدلالي للقصص، وهروب المعنى الرؤيوي من نسيج القصة، في مقابل ذلك نجد أن ازدياد وتيرة الأحداث السردية، وغلبة التشويق والسخرية على مفاصل القصة، وتخلصها من الزوائد الشعرية يضمن لها تفجرا في الدلالات، وتعميقا للمعاني المختبئة خلف أستار اللغة المشدودة بحبال اللهجة المحكية. 

يمكننا أن نؤكد أيضا أن ديناميكية السرد، والاشتغال على البناء الفني لقصص المجموعات الأخيرة أدى فيما أدى إليه إلى صناعة كائنات سردية حية تمتح من الوعي الجمعي، وتماثل شخوصا عمانية الملامح، تسبر أغوارها السوسيولوجية، وتحلل منطق تفكيرها، وتفضي إلى بناء شخصيتها من خلال استثمار عنصر الخيال المتربع على عرش البناء السردي للقصص، وهذا ما سمح أخيرا بالكشف عن رؤى عميقة محتجبة خلفها.

 



[1] يستطيع القارئ من خلال عقد هذه المقارنات أن يجد روابط وعلاقات بين قصص كل مجموعة أو بين عدة قصص من مجموعات قصصية مختلفة، على سبيل المثال: نجد أن قصة (الرادار) الواردة في مجموعة (العابرون فوق شظاياهم) لها ما يقابلها من حيث الموضوع في قصة (الصندوق الرمادي) التي تحمل عنوان المجموعة نفسه، وإن إجراء عملية مقارنة بين هاتين القصتين سيجد القارئ معها أن هناك تطورا ملحوظا على مستوى اللغة، وطريقة التناول (البدء في استثمار الهوامش سرديا)، وبناء الشخصيات، والعمق الدلالي الذي تحمله قصة (الصندوق الرمادي). كذلك نجد أن الكاتب استكمل قصة (عمتي لا تعرف نجيب محفوظ) الواردة في مجموعة (العابرون فوق شظاياهم) بقصة أخرى تحمل عنوانا مثبتا لها، وهي قصة (عمتي تعرف نجيب محفوظ) الواردة في مجموعة (وأخيرا استيقظ الدب) فيما يمكن اعتبارها جزءا ثانيا للقصة الأولى، ويلاحظ القارئ هنا أيضا مدى التطور الذي حصل لمضمون القصة، من قصة تتناول موضوع (الزواج) بطريقة تبسيطية، إلى قصة تتناول قضية اجتماعية شائكة تتعلق بموضوع عاملات المنازل، والتعقيدات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع العماني بعد زيادة الطلب على وجودهن في البيوت العمانية. ويمكن للقارئ أن يقارن بين حكايتين تتشابهان من حيث إنهما قصتان من النوع الفانتازي هما (للعلم: حكاية تنقصها التفاصيل) من مجموعة (لا يفل الحنين إلا الحنين)، وقصة (التحدي) من مجموعة (وأخيرا استيقظ الدب)، إن التطور اللافت الذي حصل للقصة الثانية من حيث تناولها للمعنى السياسي المرتبط بالطغيان السلطوي والثورة ضده لن يجده القارئ متمثلا في القصة الأولى التي تنقصنها حقا التفاصيل والنضج الفني والصياغة السردية الدقيقة لتكون في مستوى القصة الثانية.

[2] عبد العزيز الفارسي، الأعمال القصصية الكاملة، مر: سليمان المعمري، دار نثر، مسقط، ص 19.

[3] المرجع السابق، ص337.

[4] الأعمال الكاملة، ص195.

[5] المرجع نفسه، ص 203.

[6] المرجع نفسه، ص204.

[7] المرجع نفسه، ص308


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبدالعزيز الفارسي قارئًا

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

تسريد العتبات النصيّة في قصص عبد العزيز الفارسي القصيرة