تسريد العتبات النصيّة في قصص عبد العزيز الفارسي القصيرة
أ. د نضال الشمالي
بيت الزبير- 8 مايو2024
المقدمة
يقدم النقد الحديث مداخل عدة للتعامل مع
السرديات على اختلاف أنواعها، ويحتاج كل مدخل إلى أدوات منهجيّة تفي بامتلاك زمام
النصوص تحقق الغاية والمراد، والسرديات نهج أساس في تحليل النصوص تتيح للناقد طرقا
شتى في استقراء النصوص شريطة ألا يتورط في حكم استباقي، وإن فعل فمن باب الاستشراف
المؤكّدِ لا توقعِ الواهمِ، وهذا ما يمكن أن نفعله حيال فن القصة القصيرة لدى عبد
العزيز الفارسي (ت 2022). وقصصه مُرهِقة في طبيعتها أكان على صعيد تتبع خيوط السرد
فيها أم توقع النتائج واستشراف الغايات، فهي فيما تقدمه تتلبّس بويلات الواقع
وتناقضاته وسرعان ما تتجلى في صراعات نفسيّة عصيّة في دخيلة أبطالها، وكأن الذات
البشرية الممزقة ترجمان لمظاهر الواقع، فضلاً عن اشتغالها على فكرة التجريب في
السرد لغة وبناء وعتبات، وبذا فهي تثير إشكاليات في قراءتها وتأمّلها وتأويلها،
بمعنى أنّ الدخول إلى فضائها يسمح بمداخلَ عدّة، يمكن تمثّل بعضها في دراسة واحدة.
ومن هذه المداخل سرديّة العتبات الذي يكشف الأطر الفكريّة التي تحاورها نصوصه
القصصيّة، وتمثل محمولاً إضافياً تتبدى فيه شخصية الكاتب وتتقلص شخصية الراوي
المتوهم. ويمكن الاستعانة بقول المؤرخ المقريزي (ت 1442م) في تأكيد أهمية العتبات
النصيّة أو النصوص الموازية: "اعلم أنّ عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا
بالرؤوس الثمانية قبل
افتتاح كل كتاب، وهي: الغرض، والعنوان، والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن
أيّ صناعة هو، وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة"
(المقريزي، د.ت: 1/9)
قدم عبدالعزيز الفارسي سبع مجموعات قصصيّة ما
بين عامي 2003-2016، أودع فيها (77) قصة قصيرة، و(52) قصة ومضة (قصيرة جداً)،
فمجموع ما خطه قلم الراحل في حدود (129) قصة قصيرة وقصة ومضة. ويلاحظ أن الفارسي
استخدم الإهداء في مجموعتين فقط "الصندوق الرمادي" 2012، و"رجل
الشرفة؛ صياد السحب" 2016. كما وظف الفارسي ثمانية تصديرات، ووضع خاتمة لإحدى
مجموعاته "لا يفل الحنين إلا الحنين" 2006. كما استخدم الفارسي عتبة
الهوامش في أسفل الصفحات عشر مرات في ست مجموعات قصصية، ومن العتبات اللافتة لديه
عتبة التوثيق المكاني والزماني لما يكتبه ضمن مفهومي التزمين والتمكين.
لغة العتبات
لا
ينشأ النصّ الأدبيّ دون نصوص محاذية له، وقد تنوعت هذه النصوص وتباينت غاياتها،
وقد أظهر المبدعون حرصاً كبيراً على صياغة عناوينهم وأغلفة كتبهم وعراقة دار النشر
التي ستتبنى كتابهم. والعتبات النصيّة في النقد الحديث مدخل من مداخل تحليل النصوص؛
إذ تحمل هذه العلامات اللغويّة في الكتابة ذات الحساسيّة الجديدة – بوصفها نصوصاً
موازية - دلالات جديرة بمقاربة النصّ وتأويله واختراق بنيته، فهي أول ما يلفت
انتباهنا وآخر ما يبقى في أذهاننا بفضل الموقع البارز الذي تحتله من النصوص.
وموضوع
العتبات موضع هُمّش في الدراسات النقديّة المبكرة؛ إذ كان هاجسها "ربط العمل
الروائي بما هو خارج – نصّيّ، في حين تم تغييب خطاب العتبات التي طالما اعتبرها
ثانوية وعرضيّة ليس إلا" (أشهبون 2009، ص18)، إلا أنّ بعض الاستراتيجيات
النقديّة العربيّة الحديثة – في العقدين الأخيرين- أولته أهميّة ما في الدرس
والتحليل على غرار الدراسات النقديّة الغربيّة التي أعطته بعض الحق في المداولة
النقديّة، إذ عكف الناقد الفرنسي جيرار جينت على صياغة نظريّة متكاملة حول هذا
الموضوع "تنقل مدار الدلالة من علامة المفردة إلى علامة النص، في ثلاثة من
مؤلفاته هي: مدخل لجامع النص (1979)، وطروس(1980)، وعتبات(1987)، تحدّث فيها عن
محيطات النص وموازياته ومتعالياته وصولاً إلى مصطلح المُناصّا (جمع
مُناصّ وهي صيغة اسم فاعل تحمل معنى المشاركة والموازاة والمماثلة ) ، بوصف
العتبات (عناوين، تقديم، إهداء، غلاف، وتمهيد، وتصدير، وخواتيم) نصوصاً تشارك النصّ
الأساس. لقد "حفلت الآداب العربية الكلاسيكية بخطاب مقدماتي شكّل وجده تطوراً
أكثر إشراقاً فهو شهادة تدخل في بنية الخطاب المزمع تبليغه بحيث يتوزع هذا الخطاب
بين ما هو أدبيّ وعلميّ". (حليفي، 2005: ص52)
يتفاعل النصّ مع ما يحيطه من عتبات "محيطات
النص"، فيتفاعل مع عنوانه الخارجي، وتمهيداته، وعناوينه الفرعيّة وخواتيمه.
والعتبات منها ما يكون متعلقاً بالنشر كالغلاف وصفحة العنوان وكلمة الناشر، ومنها
ما يكون متعلقاً بالتأليف كاسم الكاتب والعنوان الرئيس، والعنوان الفرعيّ،
والعناوين الداخلية، والاستهلال والمقدمة والمدخل والتوطئة والإهداء والتصدير
والملاحظات والهوامش والحواشي، ويرى (جينيت) أن هذه المحيطات تجعل النص مواكباً
للحاضر، ويضمن استقباله واستهلاكه على شكله الحالي. وتشكل العتبات جنباً إلى جنب
مع لغة التدوين علامة لغوية فارقة في رواية دفاتر الوراق اعتمد عليها المؤلف
اعتماداً لافتاً لصياغة روايته وبلورتها على النحو الذي خرجت عليه.
1 في مفهوم العتبات النصيّة:
العتبة علامة إرشاديّة توجيهية مختزلة تبرز
أهميتها "من خلال موقعها في فضاء النصّ بأشمله، وفي علاقتها بالنصّ
المركزي" (أشهبون 2009، ص38)، وهي "أول لقاء ماديّ محسوس بين الكاتب
والقارئ الذي تراهن استراتيجية الكتابة على حسّه وحدسه الإبداعيين" (أشهبون
2009، ص47). والعتبات نص انتقالي نحو ما هو مهم نحو النص الأساس، وهي مفتتح
النصوص، وأول ما تصافحه العين وتدركه البصيرة، وفعل القراءة يجب أن يُخضع العتبات
لسلطة النصّ الأصليّ، لأنها ذات صفة مرجعيّة في القراءة لا نقطة انطلاق فحسب.
2 أنواع
العتبات:
تكون العتبات محيطة بالنصّ أو لاحقة عليه،
والعتبات المحيطة تحاذي النص وتندمج في فضائه، وتكون ضمن إطارين خارجي وداخلي. كما
تكون العتبات لاحقة على النص منفصلة عن فضائه زمنياً وجغرافياً؛ كالحوارات الصحفية
والشهادات الإبداعيّة والاعترافات. وستركز الدراسة على ما هو محيط بالنص من عتبات
بيّنة تكتسب صفة صياغة النص وإخراجه للعلن، وهي متصلة ببناء النصّ ومؤطرة لأفكاره.
أما وظائف العتبات فللعتبات وظائف متعددة ولا
يمكن أن توجد اعتباطاً أو أن تكون هامشيّة تزيينية بل تتخذ دوراً في تمثل رؤية
الكاتب وفلسفته، وكل عتبة هي بمثابة تمثيل لموقف ما وتمثل معلومات عن نص مرتقب،
ومن أبرز وظائف العتبات: (أشهبون 2009، ص44-53)
وظيفة
إخبارية خالصة كاسم الكاتب ودار النشر وتاريخه وجنس النص حسب قصديّة الكاتب.
تجسير
العلاقة بين خارج النص وداخله، فكثير من الحوادث المذكورة في الرواية تتسم
بالواقعيّة وتمثل انعكاساً لمدينة عمّان.
التعيين
الجنسيّ للنص، وهذا ما تمثل في إبراز لفظة رواية على الغلافين الخارجي والداخلي
للرواية.
تحديد
مضمون النص والغاية منه، وهذا ما باحت به التصديرات الكثيرة التي أطّرت الفصول
والمشاهد ومقدمة الرواية.
تساعد
القارئ على إيجاد موقع له في النص.
تحفّز
القارئ وترسم له أفق انتظار محدّد.
تسليط
الضوء على المناطق المعتمة في النص.
فتح آفاق
للحوارات النقدية والتأمليّة.
والعتبات نصوص محاذية حسّاسة بالغة الأهمية،
فهي إما أن تؤطر القراءة وتحميها وتوجهها، وأحياناً تضلل القارئ وتحيّره، فهي نصوص
موازية للنصّ الأصلي ولا تتردد في أن تضللنا أحياناً، فقد يورطنا فيها الكاتب جزئياً
لينقلنا من عالم إلى عالم، ويصادر أفهامنا أو يحصرها في أطر ضيقة أو ملبسة، وربما
يفتح لأفهامنا الآفاق عندما تتلاقح رؤيته برؤية نصوص عملاقة سبقته.
2-1 العتبات
المحيطة الخارجيّة: ويمثلها: صورة الغلاف، العنوان الرئيس، العنوان الفرعي، اسم
المؤلف، التعيين الأجناسي، محتوى الغلاف الخلفي.
2-1-1 العنوان الرئيس
هو اسم الكتاب وهويته المرئية وله عدة وظائف (Genette,
1987) أبرزها تعيين النصّ وتحديد العلاقة بينه وبين
النص، أكانت علاقة تجنيسيّة أم علاقة موضوعاتيّة (قطوس، 2001: ص49)، وتشمل
التجنيسيّة العناوين التي تحيل على النصّ من جانبه الإجناسي والحالة القصديّة لجنس
العمل مع أن القارئ غير مُلزم بقبول هذا التجنيس في كل الأحوال. أما الموضوعاتيّة
فتشير إلى محتوى النصّ وموضوعه. والعنوان الرئيس أهم العتبات على الإطلاق، إذ
يتلقاه عدد كبير يفوق عدد قرّاء النصّ نفسه، ووظيفته الأساس جلب اهتمام القارئ (أشهبون
2009، ص48-49) وإثارة تفكيره وبناء أفق توقعه. وتتأتى أهميته كذلك من أنه يحيط
بالنصّ ويشهد مفاوضات القبول والرفض بين المتلقي والنصّ (حسين، 2007: ص6)، وأحياناً
قد يتفوق العنوان على النص بل ربما كان العنوان أكثر جماليّة ودلاليّة من العمل
نفسه. (عويس، 1998: ص9).
عنوان
المجموعة القصصية الأولى: جروح منفضة السجائر (2003). وهو عنوان مجازي ثريّ
الدلالة ويحقق سرديته الخاصة ذات الصلة بقصص المجموعة الخمسة عشرة، وهذا العنوان
يماثل عنوان القصة الثالثة عشرة من المجموعة. تشكّل العنوان من ثلاث كلمات، هي
أسماء كلها، وتعرب الكلمة الأولى (جروح) خبرا لمبتدأ محذوف. وفي هذا العنوان توحي
كلمة (السجائر) إلى ذلك الشيء الذي يلجأ إليه بعض الأشخاص لتفريغ توترهم والتأمل
بظروفهم فيمررون ساهمين سجائرهم على حواف المنفضة فينقلون جروح ذواتهم إليها، فتكون
الجروح ارتدادا لهمومهم وزفيرهم والهموم حديث النفس وتقلباتها، وفي ذلك تأكيد على
أن عتبة عنوان المجموعة سُرّدت إطاراً تجعل قصصها عناصر تدور في فلكها، وقصديّة
المؤلف في اختيار عنوان إحدى القصص لتكون العتبة الكبرى للمجموعة القصصية يدعم
سرديّة باقي القصص.
عنوان
المجموعة القصصيّة الثانية: العابرون فوق شظاياهم (2005). يشكل هذا العنوان عتبة
مستقلة عن قصص المجموعة الخمسة عشرة، بل جاء واحداً بذاته. تشكّل العنوان من أربع
كلمات هي أقرب للجملة الاسمية محذوفة المبتدأ، مثلت الكلمة الثالثة والرابعة
(شظاياهم) بؤرة العتبة، فالأمر مرتبط بتشظي النفس البشرية حيال ظروف الواقع وما
تواجهه النفس البشرية من هموم، والعتبة ضمن هذا التصوّر الأولي مبنيّة على سرديّة
المفارقة، فمن يتشظى لا يعبر، لكنهم عبروا رغم ذلك. وقد مثل العبور استجماعا
والتشظي تفرقاً. وعليه تعلي هذه العتبة من قيمة العبور نحو تحقيق الغايات مهما
كانت الظروف والعواقب تجنباً للسقوط والهزيمة.
عنوان
المجموعة الثالثة: لا يفلّ الحنين إلا الحنين (2006). هذه العتبة لا تتماثل في
تسميتها مع أيّ من عناوين القصص التي ضمتها المجموعة وعددها خمس عشرة قصة،
فالعنوان مستقل بذاته مشترك بغاياته مع العتبات الصغرى التي تحيطه. وقد صيغة عتبة
العنوان جملة فعلية محكومة بأسلوب الحصر، تعكس تجربة مريرة عانى صاحبها من مرارات
الحنين، يقطع صاحبها بقناعة من قناعته، وكأن العنوان خاتمة والقصص تفصيل لحدث جرى
وانتهى. تستغرق هذه المجموعة في سيرة صاحبها ما تستغرق، إذ استهلها بقصة عنوانها
"أخائف من الموت يا أبا هاجر؟!" وهي قصة وثيقة الصلة بتجربة عبدالعزيز
الفارسي في مجل عمله الطبي وحواراته مع مرضى قضوا نحبه. كما أن عنوان المجموعة
القصصية يتناص في صياغته مع المثل العربي الشهير "لا يفلّ الحديد إلا
الحديد"، والفلّ هو القطع، ويتفارق هذا المعنى مع رقة الكلمة التي أسند إليه
وهي الحنين، والحنين هنا معادل للحديد في شدته وقسوته وجبروته، وأنّ الحنين داء
مُحبّب لا يعالجه إلا داء مثله، كما أنّ الحنين يؤكد إلحاح فعل الذاكرة على الكاتب وعدم اكتمال بوحه رغم انتهاء المجموعة،
لذا تتقاطع عتبة العنوان مع عتبة الخاتمة ص 397 "ما هكذا تنتهي
الحكاية".
عنوان
المجموعة الرابعة: مسامير (2006). تنتمي هذه المجموعة إلى القصة الومضة (القصة
القصيرة جدا) وتضم اثنتين وخمسين قصة، وجاءت عتبة عنوان المجموعة القصصية مستقلاً
ولم يتماثل مع أي من قصص المجموعة. وتتشكل من لفظة واحدة تدل على صيغة منتهى جموع،
وهذا العنوان يحمل معاني تدل على الحذر والترقب والترصد والوخز والاختراق والتثبيت
والتعليق، وقد بنى عبدالعزيز الفارسي عناوين ومضاته على كلمة واحدة مراعياً المبدأ
الذي تنهض عليه القصة الومضة ذات الاقتصاد العميق بالألفاظ والانفتاح على الدلالات
وظلالها. وهذا الاقتصاد يحدّ من سردية العناوين ويضيق القدرة على تسريدها بوصفها
نصوصا موازية. وقد اتصلت هذه العتبة بعتبة التصدير التي أدرجها الفارسي في مستهل
مجموعته قائلاً: "ثبتوا بها أوجاعكم، أو علقوا عليها تعبكم، أو استخدموها في
نعش". فالتصدير يفي بسردية العتبتبن بعد تكاملهما.
عنوان
المجموعة الخامسة: وأخيراً استيقظ الدبّ(2009). لا تتماثل هذه العنونة مع أيّ من
قصص المجموعة السبعة، تشكلت هذه العتبة من أربع كلمات، تصنع جميلة فعلية تحمل قيمة
استئناف ما مضى (الواو)، طول الانتظار (أخيراً)، الحدث الاستثنائي (استيقظ الدب)،
وهو حدث في ظاهره مهم ومنتظر وما يؤكد ذلك كلمة (أخيراً) التي يمكن أن تكون حالاً
للفعل استيقظ، وارتباط الاستيقاظ بحيوان كاسر كالدب يحمل شيئا من الخوف والفزع،
أما إذا كان الأمر مجازاً ، فالاستيقاظ مطلوب بعد سبات شتوي طويل.
عنوان
المجموعة السادسة: الصندوق الرمادي (2012). وهذه المجموعة تضم ست قصص، اختار
الفارسي عنوان القصة الرابعة ليكون عتبة المجموعة، تتكون هذه العتبة من اسمين
تربطهما علاقة نعتية، يشكل الاسم الأول خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هذا. تحمل كل
لفظة من اللفظتين دلالة خاصة، فالصندوق يملك قيمة الاحتفاظ والإخفاء والحصانة
والوعد، والرمادي تحمل قيمة التردد بين منزلتين، والانقسام والتوجس وغياب الحسم.
عنوان
المجموعة السابعة: رجل الشرفة؛ صياد السحب (2016). وهي آخر مجموعات عبدالعزيز
الفارسي، وعتبة العنوان مستقلة لا تتماثل مع أي عنوان من عناوين القصص التسعة عشر
التي اشتملت عليها المجموعة. جاءت عتبة العنوان من أربع كلمات كلها أسماء، تتوسطها
فاصلة منقوطة تجعل الكلمتين الثالثة والرابعة تفسيرً للأولى والثانية. والعنوان
يتضمن سردية تشي بفعل المراقبة والصبر والترقب والحكمة والنظر إلى الأعلى نحو
الأفق، للترفع عن النظرة الدونية والانتقال إلى سياقات أخرى تضاهي السحب ارتقاءً
والشرفات انعزالاً، فالشرفة وإن وفرت للرجل الارتقاء والنظرة الشمولية إلا أنها
تعزله عن الواقع وتجعل التواصل مع الآخرين يقتصر على البصر فقط. ه
2-1-2 عناوين القصص
أظهرت عناوين القصص في المجموعات السبعة رغبة
عالية في الإخبار تعكسها طول العتبات قياساً إلى أنها عتبات لقصص قصيرة، وقد اتساع
حجم هذه العتبات في المجموعات الثلاثة الأولى، إذ تراوح حجم العتبة الواحدة ما بين
خمس إلى سبع كلمات يغلب عليها اكتمال العبارة، ومن أمثلة ذلك، ما ورد من عتبات
للمجموعة الأولى: الخبزة الأولى محروقة، صياغة أخرى للنسيان، أين من عانق الغريب
وهاجر، نقلات شطرنجية باتجاه خديجة، بعيداً لنكتشف نهاية السماء، سبعة أشواط حول
الضياع. وعتبات للمجموعة الثانية: أيهم عبر خط بارليف؟، لذا قررت الآتي، نامي ليستيقظ
الدمع ويحكي، عمتي لا تعرف نجيب محفوظ، غنّ لي .. وقد يتفتح الزهر حيناً، مساءات
محشوة بالانتظار، نخلة واحدة في أرض شاسعة .. نخلة وحيدة. وعتبات المجموعة
الثالثة: أخائف من الموت يا أبا هاجر؟!، لك المسير .. ولي وهم الوصول، سيماهم في
أحذيتهم، رعشة الميناء بوجه القادم الآن، للعلم: الحكاية تنقصها التفاصيل، يحدث في
الصباحات الباكرة، لا غربة إلا غربة الأنثى. ومن عتبات المجموعة الخامسة والسادسة:
عمتي تعرف نجيب محفوظ، ما سمعت أذان الملايكة، عيسى عدو الصليب.
ونلحظ أن بعض هذه العتبات بُني على أسلوب
الاستفهام (أين من عانق الغريب وهاجر) و(أيهم عبر خط بارليف؟) و(أخائف من الموت يا
أبا هاجر؟!!) ولا يخفى لما يمتلكه هذا الأسلوب من جذب وتشويق نحو لحظة التنوير في
القصة، فتكون القصة إجابة لسردية العنوان. واكتمال العبارة في العديد من عتبات
القصص التي خطها عبدالعزيز الفارسي فيه قصدية نحو توجيه أفق انتظار القارئ ودفعه
لمزيد من التأمل وتبيان الحدث وممارسة حقه في التوقع والتصرف والتأويل، مع ما
يحمله ذلك من حوار مباشر مع القارئ ، كقوله (لذا قررت الآتي)، وقوله (نامي ليستيقظ
الدمع ويحكي)، وقوله (غنّ لي .. وقد يتفتح الزهر حيناً)، وكقوله (لك المسير ولي
وهم الوصول). إن اختيار عتبة بهذا الاتساع مكلف بالنسبة للقاص لأنه يهدد بكشف
مقاصده مبكراً، فيخسر رهان التوقع والانطباع لدى القارئ، إلا أنّ الفارسي كان
منشغلاً بالتأمل أكثر من تدافع الأحداث في قصصه، فجاءت العتبة بعبارتها المكتملة
داعماً لهذه القصدية في التأمل والعمق.
ومن الوسائل التي استعان بها عبدالعزيز
الفارسي في تسريد عتبات العنوان في قصصه ذلك البعد الاستعاري الذي منح العتبات
عمقاً وخيالاً كقوله (سبعة أشواط حول الضياع)، وقوله (مساءات محشوة بالانتظار)،
وقوله (سيماهم في أحذيتهم) وهنا يركّب بين الاستعارة والتناص الديني، وقوله (نقلات
شطرنجية باتجاه خديجة)، وقوله (رعشة الميناء بوجه القادم الآن).
2-2 العتبات
المحيطة الداخليّة: ويمثلها الإهداء، الخطاب التقديمي، النصوص التوجيهية
(التصدير)، العناوين الداخلية، الهوامش والحواشي، التذييل، وتشكّل هذه العتبات
علامات عبور إلى فضاء النصّ تعزّز من علاقة القارئ بفضاء العمل.
2-2-1
الإهداء
والإهداء "مكوّن نصيّ من المكونات التي
تروم تحقيق تواصل خفيّ مع مُهدى إليه قد يكون متعيّناً أو غفلاً، فرداً أو جماعة،
حيّاً أو ميّتاً" (أشهبون 2009، ص204). يدرك عبدالعزيز الفارسي ما للكتابة من
فعل تخليديّ لصاحبها إن أمتع وأقنع، وهو تعبير قائم على المكاشفة والحميمية
المنتظرة بين الكاتب وقرائه منفلت من سطوة الزمن، ويحمل بعداً متعمداً في الكتابة
لجمهور ينتظر المؤلف منهم المتابعة والإعجاب. وظف عبدالعزيز الفارسي الإهداء في
مجموعتين قصصتين فقط، هما "الصندوق الرمادي"، و"رجل الشرفة؛ صياد
السحب". جاء إهداء مجموعة "الصندوق الرمادي" على النحو التالي:
(إلى شيخي الأول في السرد: أخي زكي .. لم أزل أنفض "بشت" حكاياتك)، وهو
إهداء يجمع فيه بين اللغة المباشرة واللغة الاستعارية، ويذكر فيه مرجعيته في
اكتساب قدراته السردية. أما إهداء مجموعة "رجل الشرفة" فكان على النحو
التالي: (إلى روح الدكتور طارق عبدالله حفيظ برهام) الذي وافته المنية إثر مرض
رئوي عام 2011م، والغريب في عتبة الإهداء لدى الفارسي أنها ليست من العتبات التي
كان يميل إليها في مجموعاته القصصية، وإنما ادخر هذين الإهدائين الدالين على
الوفاء المباشرين في لغتهما إلى المجموعتين الختاميتين فيما كتب.
2-2-2
التصدير
يقصد من التصدير دفع المتلقي إلى المتابعة والإلمام
والربط، فتغدو المجموعة القصصية ذات قيمة في التواصل المعرفيّ (بلعابد، 2008:
ص124). والتصدير بوصفه ملازماً للتقديم أو هو العبارة التوجيهية التي تعني استشهاد
موضوع على رأس العمل أو جزء منه عموما يكون في الأغلب غيرياً، يفتح النص على بعد
تناصيّ مهم يتماشى والاستجابة لبعض مقولات المحيط النصيّ التي تصبّ في صميم
العلاقة النصيّة. وقد أكثر عبد العزيز
الفارسي من عتبة التصدير في مجموعاته القصصية إذ وظف ثمانية تصديرات. تتيح هذه
التصديرات للقارئ أن يؤسّس رؤيته الفنيّة التي يمكن أن يحتذيها النصّ وتُعين على
تأطير الفصول وتوجيه القارئ لمحتوى ما سيواجهه ضمن هذه المقولة، وخلق مجال حواريّ
بين الرّواية ومقولاتها التصديريّة، ومجال آخر بينها وبين القارئ.
امتلكت عتبة التصدير لدى الفارسي قصديّة في الاختيار
والاقتباس، تعين الكاتب على إيجاد موقع ثقافيّ وأدبيّ له بين الكتّاب، وهي تصديرات
متباينة: ثلاث مقولات من تأليف الكاتب، وأربعة شواهد شعرية لشعراء عمانيين، وقول
أدبي نثري لأديب. مثّلت هذه التصديرات امتداداً دلالياً للعنوان. وقد جرى فصل هذه
النصوص عن مواقعها الحقيقية وإدراجها ضمن سياق جديد ارتضاه القاص للاستفادة من
طاقتها الدلاليّة ومحمولاتها المعرفيّة والفلسفية في توجيه الأفهام نحو غاياته.
التصدير
الأول: من تأليف القاص نفسه أورده في مجموعته الأولى "جروح منفضة
السجائر" قال فيه : "تولد الأشياء لتسقط في الغواية، ثم يمضغها التراب"
ص15. وهذا تصدير مركب يقترب في خطابه من الديستوبيا التي توثق انهيار المدن وتفشي
الفساد وسقوط القيم، وفي التصدير سوداوية وحزن ترجمتها قصص المجموعة.
التصدير
الثاني: أبيات شعرية للشاعر العماني محمد عبدالكريم الشحي، قال فيها ص17:
مكحولة بالوهم يا أحلامنا مشبوبة كالحزن في اللهوات
مطمورة كالراحلين يعيثهم كفن الغيوب وهجعة الفلوات.
التصدير
الثالث: أبيات شعرية للشاعر العماني إسحاق الخنجري، وردت في مستهل المجموعة
الثانية "العابرون فوق شظاياهم"، قال فيه ص153: "غيّرت عاطفتي
القديمة .. لم يعد قلبي يحن .. إلى هتافات
النخيل"، وهو تصدير يعبق بالذاتية ويعلن العبور وشروطه الصعبة وما يتضمنها من
تغيير وجحود.
التصدير
الرابع: من تأليف القاص نفسه أورده في مجموعته الثانية ص154 يتحدث فيه عن بلدته
شناص النتاخمة لحدود سلطنة عمان مع الإمارات، ويوضح مكانتها وأهميتها، وهي من
الأماكن التي شكلت حضورا لافتاً في قصص عبدالعزيز الفارسي كونها تمثل ذاكرة
الطفولة وأصالة الزمن وملمح الوفاء.
التصدير
الخامس: أبيات للشاعر العماني أحمد الدرمكي، وردت في مستهل المجموعة الثالثة
"لا يفلّ الحنين إلا الحنين"، قال فيه ص293: أصوغ تشردي عنباً
وأعصره على جرحي ..
لأنسى تربة الصبوات في مهدي
لعليّ حينما أغزو يقين الذات
أعلم أنّ هذا اليوم
لن يحنو لأمر غدي.
وهذا
التصدير مستغرق في الذاتية والحنين ومحاصرة الزمن.
التصدير
السادس: قول للأديب العراقي عبدالرزاق الربيعي، ورد مستهل قصة "لا غربة إلا
غربة الأنثى" إحدى قصص المجموعة الثالثة ص385. يقول فيه : "لا تفرط
بأدني وطن .. ولو كان مستنقعاً". فهل الأنثى تملك قيمة الوطن إذا ما عزّ
الوطن.
التصدير
السابع: من تأليف القاص نفسه أورده في مجموعته الرابعة "مسامير" قال فيه
ص401: "ثبتوا بها أوجاعكم، أو علقوا عليها تعبكم، أو استخدموها في نعش".
بُني هذا التصدير على مخاطبة جمهور القراء الذين يتلمس القاص أوجاعهم فيشاركهم
الهم ويعالجه بقصصه الومضات.
التصدير
الثامن: أبيات للشاعر العماني أحمد السعدي، وردت في مستهل المجموعة الخامسة
"وأخيرا استيقظ الدب"، قال فيه ص459:
شباك هذا الوطن .. ومنفاه يامنفاي
أقرا بعينك طفل .. محبوس بين دماي
وأقراه لما كبر .. وتفجّر بمجـــــــــــــراي.
2-2-3
العناوين الداخلية (الفرعية)
وظف عبدالعزيز الفارسي عتبة العناوين الداخلية
في قصهه على خمس مجموعات قصصية، وقد استخدم هذه العتبة ثماني مرات، وقد جاءت هذه
العناوين تارة على شكل أرقام كقصة "أحاسيس متقاطعة" ص 241، أو عبارات
كقصة "مساءات محشوة بالانتظار" ص 267، وقصة "أخائف من الموت يا ابا
هاجر؟!!" ص 297، وقصة "سيمفونية" ص 349، وقصة "ابوعيون"
ص 489، وقصة "حمام الشيخ" ص615، أو تواريخ وأماكن كقصة "سبعة أشواط
حول الضياع" ص 135، وقصة "أيهم عبر خط بارليف أولا؟" ص 155، أخذت
العناوين الداخلية للمشاهد دوراً تلخيصياً في توجيه القارئ أو دوراً استعارياً
تشويقياً في بعض الأحيان. ويلاحظ أن القاص
كان ميالا إلى توظيف عناوين العبارات ثم التزمين ثم الترقيم. من المفارقات الطريفة في قصة "أيهم عبر خط
بارليف أولا؟" ص155، قسمت القصة على ست أجزاء على الأيام الستة الأولى من شهر
أكتوبر، وتوقفت عند السادس من أكتوبر.
2-2-4
التذييل أو الخواتيم
يلجأ القاص إلى عتبة الخاتمة عندما يشعر أنه
لم يبح بكل ما يريد في مجموعتة القصصية، وقد لجأ عبدالعزيز الفارسي إلى هذه العتبة
مرتين؛ الأولى في ختام قصة "المسيرون" ص 29، من مجموعته القصصية الأولى،
جاءت على شكل ملاحظات (1.لم أشرب شيئاً هذه الليلة. 2.القلم لا يكفي للانتحار. 3.
بإمكانك نسخ الرسالة وإرسالها إلى أي السلطات. دعها تسيّرني حيث تشاء)، وهذه
العتبة جاءت منسجمة مع معطيات القصة التي وردت في نهايتها.
والثانية
في ختام مجموعته الثالثة "لا يفل الحنين إلا الحنين" ص 397، وعنونها
بقوله "ماهكذا تنتهي الحكاية"، جاء فيها: "لم نرتب بعد فصولنا
التائهة، ولا نعرف أي أيامنا أحقّ بالدمع. لم نكفكف أوراحنا المتعبة، ولم نجرّب
شهوة الشمع. فعلام تستلنا بغتة؟! تمهّل يا غياب. أرجوك تمهل. التفاصيل تنداح من الذاكرة، وتملأ المحاجر. تنساب برفقة
الملح. تخط المسارب في القلبين، وترسم بلاداً حائرة...." تأتي هذه الخاتمة
على هيئة خاطرة يعبر فيه االقاص عن حنينه الخاص وذاتيته المرهقة، فتأخذ الخاتمة
بعداً تواصلياً مع أحبته.
2-2-5
الهوامش
تعد عتبة الهوامش من العتبات التي برزت في
التجربة القصصية لدى عبدالعزيز الفارسي لا سيما في أربع من مجموعاته القصصية
السبعة، وقد تكرر استخدام الهوامش السفلية في تسع قصص، وقد جاءت وظيفة الهامش
متعددة ما بين توضيح لمعنى كلمة من اللهجة المحلية أو توثيق مكان، أو تعريف بجماعة
من الجماعات، أو لمخاطبة القارئ فيما يعرف بالميتاقص، أو لإنضاج فكرة.
ومن
الطريف أن القاص اشتغل على عتبة الهامش اشتغالاً تجريبيا كما حدث في قصة النقطة (ص645)
وهي القصة الثانية في مجموعة "رجل الشرفة؛ صياد السحب"؛ إذ تكون متن
القصة من نقطة، وتحيل النقطة على هامش من ثلاث صفحات تحدث فيه القصة، وهنا ينقل
القاص قصته من المعلن إلى المضمر من المتن إلى الهامش، وفي ذلك توظيف لعتبة الهامش
لا مجرد استعانة، أي أن له وظيفة فنية وتواصلية. وهذه القصة كان قد مهّد لها
عبدالعزيز الفارسي في مجموعته "مسامير" التي كتبها عام 2006، أي قبل عشر
سنوات من كتابته لقصة النقطة، وقد ورد التمهيد في التعليق الموثق على الغلاف
الخلفي للمجموعة قال فيه مخاطباً جمهور القاصين "هل أنتم مصابون بالربو؟
بدأتم بثمانين صفحة وانتهيتم بسطر. غداً تضعون لنا نقطة ثم تقولون: قصة"
(ص455). ثم يأتي مجدداً في قصة عنونها بـ "النقطة" بقصة متنها نقطة فقط،
ثم أردفها بهامش طويل موزع على أربع صفحات، وهذا يحسب على الرغبة الواضحة بالتجريب
لدى عبدالعزيز الفارسي. والقصة تسير ضمن مسارين؛ مسار الواقع المؤلم ومسار الوهم
السعيد، ترتبط القصة بنقطة دم تلوث دشداشة خليفة مبارك العبري أحد صبية شناص، وهي
نقطة دم عنيدة ترفض أن تزول من ثوب خليفة رغم محاولات أمه في إزالتها، فترافقه هذه
النقطة التي مالت إلى الصفرة إلى نهاية حياته، يكون لهذه النقطة مفعول السحر، فهي
من سترسل بخليفة إلى استكمال تعليمه في لندن ثم هيوستن ثم مسقط فالعودة إلى شناص،
يتخصص خليفة بالطب وتبقى عقدة الدم تلاحقه فيطور أبحاثه ودراساته لابتكار كاميرا
قادرة على فحص دم الإنسان دون جرحه، هذا الابتكار سيمنحه جائزة نوبل عام 2036م،
والراوي العليم في ذلك يوهمنا بممارسته لسردية الاستباق، لنكتشف بأنه استباق وهمي
نابع من تقنية التداعي، فخليفة ما يزال صبياً يسوق دراجته بالقرب من سور العبري فتصدمه
سيارة ويقضي نحبه بعد أن يترك قطرة دم عنيدة أخرى على زجاج السيارة لا تزول.
والنقطة هنا ذات دلالة أن لا شيء على أرض الواقع قد حدث فعلاً، فالأمر لا يتجاوز
نقطة عنيدة، والنقطة في فلسفة الفن العربي: "هي بدء الطواف، والنقطة هي بداية
كل تشكيل فني، هي أصل المحور الكوني، هي قطب المعرفة، ومركز الدائرة، فالبداية
نقطة والنهاية نقطة، النقطة هي النور الأول، هي الحرف والرقم والشكل، هي القياس
الجمالي، والأبعاد الموسيقية للحرف في طوله وامتداده وانحنائه وانكساره"
(ماجد، د.ت). وفي مصدر آخر عن إبراهيم بن
عمران النيلي، أنه قال "سمعت الحلاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط
مجتمعة، فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط، وكل خط مستقيم أو منحرف هو
متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين"
(الساعي البغدادي، 2004: ص67)، لا أجزم بأن عبدالعزيز الفارسي قصد مقاصد الفن أو
الصوفية، لكن الحوادث مبدأها من النظر، ومعظم النار من مستضغر الشرر.
ومن
عتبات الهامش ذات البعد التجريبي، إتاحة المجال للراوي المتكلم بإدراج هامش لقصته
موجه للمروي له الضمني في القصة، وقد ظهر ذلك في قصة "المسيّرون" ص 25،
من المجموعة الأولى، يقول الراوي "أسرّ لي سالم في يوم آخر بأن السيدة خاتون
بنت مراد كانت قد جاءت لعلاج نقطة سوداء صغيرة ظهرت فجأة في خاصرتها
اليمنى...". ويمكن تبرير ذلك أن الراوي يستخدم أسلوب الرسالة في التواصل مع
الشخصيات الأخرى.
كما وظف
عبدالعزيز الفارسي أحد الهوامش لإدراج قصة داخل القصة الأصلية، كما فعل في قصة
"رمانة" ص567 من مجموعة الصندوق الرمادي، وفي هذه القصة يُدفع الراوي
العليم الذي يروي بضمير الغائب أن يستذكر قصة موازية لسياق الحديث، فيضعها في
الهامش حتى لا يفسد مسار القصة الأولى، يقول الراوي العليم "حدثتني عمتي عن
سندية عن رحّوم البيرق قالت ...".
2-2-6
عتبة التوثيق
من
العتبات التي حرص عبدالعزيز الفارسي على توظيفها، هي عتبة التوثيق الزماني
والمكاني لكتابة قصصه، وقد حرص في جل قصصه ومجموعته على عتبة التوثيق، من باب
تزمين القصص وربطها بحوادث معينة ومؤثرات خاصة عاشها الكاتب وأثرت فيه. يقول في
مستهل مجموعته الخامسة "وأخيراً استيقظ الدب" 2009، "كتبت هذه
القصص عام 2008 بين ولايتي شناص العمانية وتكساس الأمريكية". ص 458. وكرر ذلك
في مستهل مجموعته السابعة "رجل الشرفة؛ صياد السحب" 2016، "أُنجزت
هذه المجموعة بين عامي 2015 و2016، بمدينة أنكاستر الكندية، باستثناء "مطر
صباحي" التي كتبت عام 2008م في السماء بين هيوستن ودبي". ص636.
الخاتمة:
وخلص
الدراسة إلى نتائج أساسية وذلك على النحو التالي: (مفهوم سلاسل العتبات) ،
(التعتيب الضمني)
·
ثراء
مدونة عبدالعزيز الفارسي بالعتبات وتنوعها وهي عتبات وزعت على العتبات المحيطة
الخارجية، والعتبات المحيطة الداخلية. وقد أظهر الفارسي نضجا في التعامل مع هذه
العتبات مع تنوع بيّن للعتبات المحيطة الداخلية وتعددها.
·
فكرة
التجريب في العتبات النصية، والتنامي العتباتي من الأفكار التي ظهرت في وقت مبكر
في تجربة عبدالعزيز الفارسي القصصية، وقد أظهر تفوقاً محموداً فيها.
·
أعطت
العتبات في نصوص عبدالعزيز الفارسي محمولات إضافية للنصوص بوصفها نصوصاً موازية، ومتحررة من
معطيات المتون الأساسية في القصص القصيرة.
المصادر
الفارسي،
عبدالعزيز: الأعمال لقصصية الكاملة، مراجعة سليمان المعمري، مسقط، دار نثر، ط1،
2024.
المراجع
أبوريّاش،
موسى إبراهيم: التحولات الصادمة في رواية دفاتر الوراق، القدس العربي، 18/9/202.
أشهبون،
عبدالمالك: عتبات الكتابة في الرواية العربية، دمشق، دار الحوار، ط1، 2009
بلعابد، عبد
الحق: جيرار جينت من النص إلى المناص، ط1، بيروت، الدار العربية للعلوم، الجزائر،
منشورات الاختلاف، 2008.
بوعزة،
محمد: حوارية الخطاب الروائي، 2016، القاهرة ، رؤية للنشر والتوزيع، ط1.
تودوروف،
تزفتيان: الأدب والدلالة، ترجمة: محمد نديم خشفة، ط1، سوريا، مركز الإنماء
الحضاري، 1996.
الجزار،
محمد فكري: العنوان وسيميوطيقيا الاتصال الأدبي، 1998، القاهرة، المصرية العامة
للكتاب.
حسين،
خالد حسين: في نظرية العنوان، مغامرة تأويليّة في شؤون العتبة النصيّة، ط1، دمشق،
دار التكوين، 2007.
حليفي،
شعيب: في العتبات وبناء التأويل، ط1، الدار البيضاء، دار الثقافة، 2005.
درمش،
باسمة: عتبات الكتابة، مجلة علامات، النادي الأدبي بجدة، ج61، مجلد 16، 2007.
الساعي
البغدادي، علي بن أنجب: أخبار الحلاج، تقديم هادي العلوي وأكرم أنطاكي وفائق
حويجة، حقق أصوله وعلق هليه: موفق فوزي الجبر، ط3، دمشق، دار الطليعة الجديدة،
2004، ص 67.
عويس،
محمد: العنوان في الأدب العربي النشأة والتطور، ط1، القاهرة، مكتبة الانجلو
المصرية، 1998.
قطوس،
بسّام: سيمياء العنوان، 2001، ط1، اربد ، مكتبة كتانة.
لحمداني،
حميد : أسلوبيّة الرواية، 1989، ط1، الدار البيضاء، منشورات دراسات سال.
لحمداني،
حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، 1993، ط2، بيروت ، المركز الثقافي
العربي.
ماجد،
حسين: الخط العربي فن ودراسة، مقال: https://www.crdp.org/magazine-details1/658/699/696
المقريزي،
تقي الدين: كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج1، ص9.
يقطين،
سعيد: تحليل الخطاب الروائي، 1997، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي.
Genette,
Gerard: Seuils edition, du seuil, Paris, 1987.
Mukarovsky,
Structure Sign and Fanction, London, 1971, P140
تعليقات
إرسال تعليق