فيلم أرواح ملتهبة ليعقوب الخنجري ...البحث عن كوامن الشر البشري

 

سماء عيسى

بيت الزبير- 22 مايو 2024



أمامي هنا للحديث تجربتان سينمائيتان، ترتكزان إلى الحديث إياه، الذي ساقته إلينا المحاولة السينمائية الجادة للمخرج الواعد يعقوب الخنجري عبر فيلمه الروائي القصير "أرواح ملتهبة"، مع ملاحظة أنني لا أهدف إلى عقد مقارنة ما، وإنما فقط البحث عن دليل يرشدنا إلى الاقتراب من محاولته الجادة في البحث عن كوامن الشر في الإنسان ومدى نجاحه في اكتشاف هذه الكوامن في الجذور العميقة للكائن البشري ومعرفتها، وهي تجربة كانت وما تزال محط اهتمام علماء السلوك والأجناس معا، ومحط اهتمام السينمائيين بمختلف انتماءاتهم الفكرية والفنية. أتحدث عن تجربة السينمائي النمساوي مايكل هاينكه في مجمل أفلامه، وعن تجربة الروائي البريطاني وليام كولينج في "أمير الذباب" التي أخرجها للسينما بيتر بروك، فضلا عن تحولها إلى مسلسلات كارتونية للناشئة، الأمر الذي جعلها تحظى باهتمام نقدي واسع في أفلام هاينكه، إذ يتحول البيت العائلي من مكان آمن دافئ، إلى مكان خطر وغريب يسهل غزوه. وما يجعلنا نسترشد بهاینكه هو الحضور القوي للأطفال في أفلامه، خاصة عندما يكونون ضحايا العنف البشري الذكوري كما هو أيضا في فيلم "أرواح ملتهبة" ليعقوب الخنجري، وما يذهب إليه يعقوب عرض وتحليل عدائية خالد - الشقيق الأصغر - للصبي المعوق سلمان متأثرا بإدمانه على أفلام العنف في (البلاي ستيشن). وهي الظاهرة التي وضعها تحت مجهره هاینكه في عدد من أفلامه السينمائية مطلقا عليها إمبريالية الميديا.

أتحدث ثانيا عن فيلم أمير الذباب الذي أخرجه بيتر بروك عن رواية وليام غولدنغ، وهي رواية تحكي عن تحطم طائرة مروحية كانت تقل عددا من الأطفال، ولجوئهم من ثم إلى جزيرة مجهولة لا أحد فيها، حيث يبدأ الأطفال بتأسيس مجتمعهم الإنساني الجديد، معتمدا على قوى الشر والخير، التي يحملها في جذوره كل منهم تجاه الكائنات الأخرى بالجزيرة، وتجاه بعضهم البعض أيضا. يصل ذلك لاحقا إلى قتل بعضهم البعض في المعارك التي تدور بينهم، والتي تبرز فيها الزعامات الفاشية، وتسود حياتهم شريعة الغاب. الرسالة التي يريد إيصالها إلينا المؤلف والمخرج، هي ولادة غزيرة الشر مع الإنسان، وأن الشر ليس حدثا طارئا من البيئة التي نعيش فيها، وأن عملية التخلص منه لسيادة الخير والمحبة ضرب من الخيال.



عبر فيلم "أرواح ملتهبة"، يقدم يعقوب الخنجري قوى الخير متمثلة في الطفولة والأمومة، وقوى الشر متمثلة في أنانية السلطة الأبوية، ذاهبا بنا إلى جيل أمبريالية الميديا على حد تعبير هاينكه، وهو جيل تخلص من مشاعر الترابط الإنساني الذي كان يحظى به المجتمع الريفي، والذي ينتمي إليه بطل الفيلم، وهو الصبي المتخلف عقليا. تدور الأحداث في قرية من قرى الريف العماني، مثلما يتضح جليا أن ألعاب العنف والعداء ساهمت في تكوين شخصية أبنائها، وأبقتهم أسرى ما يفرضه عليهم العداء والكراهية، فاقدين البراءة التي سادت حياة الريف العائلية الأخلاقية والدينية على مدى قرون، ومثلما يوظف يعقوب عناصر الدمار هذه يوظف نقائضها أيضا، كروح الأم، وحليب الماعز، وورود الحقل، وفراشاته، وعذوبة الماء الجاري، وآلة الجيتار التي ترافق سلمان المعوق حتى وفاته غيلة بتخطيط مسبق من جيل أمبريالية الميديا. وقد مثل حادث وفاته إثر سقوطه من قمة جبل ذروة عناصر القبح البشري، ووجه الدمار المواجه لتجدد الحياة والدافع لموتها واندثارها.

مهد يعقوب لحادث مقتل سلمان المعوق بمشهد يلعب فيه الصبيان الشطرنج، وينتهي بموت ملك أحدهما بل وسقوطه ميتا على رقعة اللعبة. ليس بعيدا عن هذا المشهد الشهير في فيلم "الختم السابع" لإنغمار برغمان يلعب الفارس الشطرنج مع ملك الموت فإذا انتصر عليه استطاع تأجيل موته، ويموت في حالة هزيمته التي حدثت بالطبع، لأن الملك كان قد جاء مكلفا بهذه المهمة. يدخل برغمان انطلاقا من هذا المشهد في أسئلة الوجود الكبرى المتعلقة بالحياة والموت والفناء والبعث. فيما يعقوب الذي قدم التمهيد الرمزي لحدث موت بطل فيلمه يكتفي بطرح أسئلة من قبيل: من أين يأتي الشر؟ وما هي دوافعه؟ مع ظلال خافتة للحضور القوي لمشهد "الختم السابع" لبيرغمان مع تميز عدم سقوطه في التقرير الأخلاقي الذي دأبت عليه معالجات الأفلام العربية عامة، إذ لا يقدم الفيلم الوعظ الأخلاقي الساذج، ولا يقدم السطح الرومانسي الخادع لحياة القرى، ذلك ما أعطى يعقوب القدرات العالية على رصد التحولات الإجتماعية والنفسية ومتابعتها لدى أبناء القرى، ذلك ما فتح له مكنونات الشر لدى الإنسان تجاه الإنسان، وتبقى الكائنات المقدسة التي حافظ يعقوب على نقائها دون مساس بعواطفها: الأمهات، غنمة المنزل، أطفال الحارة، وفلاحات القرية. المشاهد تمتاز بالحدة والرأفة في آن واحد، أقرب إلى كسر التتابع الزمني التقليدي في السينما. يعتمد المخرج على تشكيل مشاهد متباعدة زمنيا ومكانيا، تلتقي متلاحمة لتشكل نصا سينمائيا مكثفا معتمدا على دهشة الصورة السينمائية المنوط بها إيصال جوهر ثيماته ورسالته، في فيلم يقدم الصدمة تلو الصدمة واصلا بنا إلى ذروة المشهد الصادم الأخير، مشهد تخلص أبناء القرية ببرود تام من صبي معوق. بالطبع تلك ضرورة السينما ولغتها الخاصة في خلق عالم يوازي الواقع وليس التكرار البائس له.

ما تقدمه لنا تجربة كهذه النظر وبعمق إلى أعماقنا وما نختزنه من كراهية متراكمة ضد من يختلف عنا وإلى ما لا نراه، ذلك ما يصل بنا إلى طرح الأسئلة على أنفسنا وعلى الواقع من حولنا، فالسينما لا تقدم للمشاهد الإجابة على أحداث الفيلم، وذاك هو الدور الطليعي في البحث عن كوامن متخفية تشكل أسرار الكائن البشري في تحولاته إلى الأسوأ دوما، دون أن يعي تحولاته تلك نظرا لنحرها البطيء في الكائن البشري وعلاقاته مع الكون وساكنيه عامة. وعدم التقاء ذلك مع النقيض في فيلم يقدم التوازي في سير كائناته وثيماتها المتناقضة فلا نشهد الصراع بين نقائض الحياة، بل نشهد افتراقها وعدم تماسها وكأن مهمة الفيلم الأساسية خلخلة النظرة البائدة، التي رأت وما تزال استقامة الواقع الاجتماعي والأخلاقي في الريف العماني، استنادا إلى ما يحظى فيه الإنسان بمحبة التآلف العائلي، إلا أن ذلك سطح الواقع الرهيف، ولكن عندما نمزق قطعة منه تظهر أمامنا صاعدة كوارث الحقد البشري، التي عندما تجد الفرصة للظهور تظهر حادة مؤلمة كحادثة دفع الصبي المعاق إلى الموت من قمة جبل، وليبدو الأمر قضاء وقدرا .

بالطبع لا يقدم الفيلم نقدا ما لفرد في المجتمع، فالمخرج يذهب بنا إلى تأمل البناء الاجتماعي الذي قارب على الانهيار، أهمها العائلة وشفا انهيارها بين محبة الأم وكراهية الأب، ومراهقو القرية عامة في فقدانهم النبض الأخلاقي الذي كان يسود حياة قريتهم دون اكتساب قيم وأخلاق مدنية تحل محلها. ولأننا نرى النقيضين ندرك جيدا سطوة الشر القادم ورحيل المحبة والخير؛ لأن من يرافق الشر هم الأجيال القادمة، أما الخير فيرحل مع رحيل الماضي بمباهجه وآلامه في آن معا.

اختيار المخرج لمعوق القرية كنموذج مركزي تدور حوله الأحداث والعواطف السلبية والإيجابية بالقرية كان اختيارا مثاليا لما يسكن البشر من جذور مفرطة في العداء، وجذور تطفح بالمحبة، ذلك ما يسود السينما العالمية، أي الاتجاه إلى الضحايا والمرضى والمجانين كبؤرة تختبر بها العواطف البشرية ونزعاتها التدميرية خاصة، وأهمها في هذا السياق الأفلام السينمائية العديدة المستقاة من رواية "أحدب نوتردام" الشهيرة لفيكتور هوجو، والتي جسدت علاقة المحبة الإنسانية الصافية التي ربطت الغجرية بمعوق يعيش في كنيسة نوتردام، كانت الغجرية لجأت إليها خوفا من الشنق إثر تهمة قتل كاذبة وجهت إليها، وفي حالات أخرى تستخدم السينما المعوق نفسه كبؤرة للشر وذلك لإحلال المفاجأة غير المتوقعة لدى المشاهد، على غرار ما تذهب إليه سينما هوليود دائما في جرها المشاهد إلى البقاء معها في سطح الواقع وسذاجة نتائجه، إذ آخر ما يتوقعه متابعو الفيلم أن القاتل أو المغتصب هو المعوق في الحي أو القرية. نتائج تصل بنا إليها سينما الاستهلاك الفني العابر مع التزامنا العبور على السطح مغمضي العيون والقلوب والعقول. إلا أننا في حالة "أرواح ملتهبة" نذهب إلى العكس، وما هو غير قابل للتصديق لدينا قتل المعوق من أبناء القرية الذي كنا ننتظر منهم المحبة والرحمة التي افتقدها سلمان المعوق في منزل عائلته، حيث ووجه بالعداء من أخيه وزوج أمه.

أذهب إلى أن أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها استيعابا لثيماته الأساسية، هو مشهد الصراع الذي تفجر بين الأخوين سلمان المعوق وأخوه الأصغر خالد، حيث تدخل الأم في غياب الأب للفصل بينهما وهي في طريقها حاملة التمر والقهوة لمشاركة نساء الحي تناولها، فتكتشف الأم العداء اللامبرر والمكتوم بين الأخوين، وانفجار المعوق في أخيه الأصغر مستخدما قوة تفوق قدرته الجسدية، لولا حضور الأم لتخليص الأخ الأصغر منه. موطن قوة المشهد استخدام المخرج فزاعة الطير في الحقل كمفجر أساسي للخلاف المكبوت بينهما، خاصة مع اعتراف الأصغر الذي ألبس الفزاعة ملابس أخيه المعوق بأن الفزاعة هي أخوه، وليست الخشبة التي توضع خصيصا لإخافة الطير، والفزاعة رمز عدائي للطير في الموروث الشعبي. هكذا يضيف المخرج العنصر الرابع في المشهد ككائن آخر يحمل روح العداء البشري أيضا، ليكتمل المشهد بعناصره الأربعة (خالد + سلمان المعوق + الأم رمز الخلاص + الفزاعة مرتدية ملابس المعوق).

قدم لنا النهاية المأساوية لحياة سلمان المعوق، يبين أن من ساهم في إنهائها، ليس صبية الرحلة الجبلية بأرواحهم العدائية فحسب، بل المجتمع برمته، ونموذجه المصغر (القرية) التي تفقد تدريجيا أواصر الألفة والمحبة بين أبنائها دون أن يتسنى لها بعد اكتساب قيم أخرى بديلة تنقذها من وحشية التعامل مع الكائنات الضعيفة والبريئة في الكون. وبالذهاب إلى أبعد مما يطرحه الفيلم مباشرة، أي الخلفية اللامرئية أمام عيوننا المدركة، ومع متابعتنا سير أحداث الفيلم، وصولا إلى مشهده النهائي؛ مشهد نهاية الحياة العابرة القصيرة لسلمان المعوق، يقدم المشهد نهاية عالم بأسره، انقضى وعاد نسيا منسيا: الأحياء الأربعة الذين دفعوه للسقوط من قمة الجبل هم من بقي ومازال جيل الخواء الروحي؛ جيل الألعاب التي تؤجج روح العداء للآخر، وتزرع في العقل والقلب الأنانية والعداء، خاصة لمن هو غير قادر على مواجهتها، ولمن هو ضحيتها أيضا مثل خالد أخ سلمان المعوق، الذي نظر إلى أخيه كفزاعة تهرب حين تراها الطيور، ذلك عكس شخصية سلمان المحبة للطير والفراشات وللموسيقى.

مستقبلا دون شك، سيكون يعقوب وزملاؤه أكثر عمقا وتجذرا في تقديم هذه الكوامن الغامضة لدى الإنسان سينمائيا، بالعودة إلى الجذور اللامرئية، وإلى الحكايا والأساطير التي تختزن هذه الجذور، أن لا نبقى أسرى السطح الملائكي الخادع فثمة في الجوف ما هو نقيض ذلك، تشكل ويتشكل دون الوضوح المرئي، والسينما هي المؤهلة للبحث عنه وتقديمه وطرح الأسئلة والحوار حوله؛ لأن الكون الذي هو مصدر حياة الإنسان ودلالة بقائه وتطوره، هو أيضا شاهد نهاية وجوده، إذ هو الإنسان مرتكب المجازر ناشر الأوبئة دون تحديد زمني ومكاني محدد تحت المجهر السينمائي.

 قدم وليام كولدنغ وبيتر بروك "آلهة الذباب" ومايكل هاینکه "زمن الذئب" بعيدا عن أي تحديد عرقي أو ديني محدد، جذور الشر سبقت هذه الانتماءات، وهي اليوم تحافظ عليها وتغذيها إمبريالية التعصب العرقي والديني والسينما المنوط بها الكشف عن زيف إدعاءاتها، هي أيضا من يكشف كوامن النبل البشري، هي من يسير بنا بحثا عن نور الشمس في ليل الكون المعتم.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عبدالعزيز الفارسي قارئًا

قراءة في المجموعة الشعريّة مقامات لام وضمة ميم للدكتور محمد الشحي

تسريد العتبات النصيّة في قصص عبد العزيز الفارسي القصيرة