شهادة في فيلم " أرواح ملتهبة"
د. أمل عبدالله الحرملية
بيت الزبير- 22 مايو 2024
جرب أن تكون ساخطًا ومُعجبًا في ذات الوقت،
أن تفتح فمك لتضع قطعة كعكٍ شهي بيد وتسكب رشفات من قهوتك المُرة بيدك الأخرى، في
آنٍ واحد، تمضغهما معًا، دون أن يستبق أحدهما الآخر كما اعتدنا دائمًا، أن يُربكك
هذا المزيج الحلو المُر دون أن تعرف تسميةً جديدة له.
هكذا شعرتُ وأنا أحضر العرض الأول لفيلم
"أرواح ملتهبة"، هكذا كنتُ أغلي على كرسي المسرح مثل ورقة شاي يتلاعب
بها محيطٌ ملتهب يغلي تحته بركانٌ كان خامدًا لألف عام، كل دقيقة من الخمس وعشرين
دقيقة التي انقضت في الفيلم وأنا أراوح وراء عقلي وقلبي جيئةً وإيابا، ووراء
سلمان، أمد له كفًا أثيريا كالتي يمدها الأطفال للأشباح والوحوش وجنيّات الليل
بأيدٍ مرتعبة، فقط ليحصلوا على الإجابة التي لا يجدونها عند الكبار، هل أنتِ
حقيقية؟ وحين يلمسونها لا يلمسون شيئا، يتحول كل شيء إلى ذرات ذهبٍ صغيرة تتلألأ
في الليل، تتضاءل وتبتعد وتتفتت حتى تعود إلى العدم، أو لا تعود، الأطفال لا
يعرفون الوِجهة، أو هكذا يقال لهم، أو هكذا يُهيأ لهم.
أراقب سلمان، طفل العشرين عاما، وهو يضم في
قبضته بتلات الورد، يجمعها في قفيره السعفي الصغير، يملأ رئتيه بأريجها ثم
يُطلِقها للريح في القرية وهي تركض في البساتين حاملةً معها لقاح النخل من نخلةٍ
إلى أخرى، مثل ساعي بريدٍ على عجلةٍ من أمره، ويُطلق شذى وردهِ للوجوه، ولسواقي
الفلج التي عرفته حين تنكّرت له تلك الوجوه.
هنا أمعن يعقوب في إغراء المشاهد، وتعمّد مع
سبق إصرار إيقاعه في غرام المكان الذي شهِد الأشياء كلها تكبر إلا سلمان المعذّب، سلمان
الذي علُق في مكانٍ ما في الماضي رافضًا فراق طفولته أو ربما هي طفولته التي أبت
أن تُرخي قبضة يدها وتُفلته. مشاهد لجمالِ الأرض العمانية، الحقول الخضراء
الشاسعة، الصباح وهو يطلع عليها فينفخ الحياة في كل دقائقها وتفاصيلها، الحراثة وتربية
الأغنام، برك الماء الباردة التي تصبح ملاذًا في أيام القيظ الملتهبة، مشاهد
تعيدنا جميعًا أهل القرى إلى سنواتٍ خلَت كانت فيها القرية أجمل مكانٍ في العالم،
ليس لأننا لم نكن نعرف عن الكون سواها، فحين كنت طفلة تحاصرني قريتي من الجهات
الأربع، كنت أحلم برؤية العالم، كبرت ورأيت العالم، واكتشفت أنها ليست الأماكن
التي تجعل البلابل تغرد في القلب، بل الحب الذي تشيعه الأماكن والناس الذين نحب،
فتصبح القرى وكأنها قطعًا سقطت سهوًا من الجنة.
هكذا كانت قرية سلمان، فاتنة جدًا بما تبثه
في عيون الرائي من سحرٍ وفتنة، تُغدق على الناظر إليها شعورًا يشبه سطوة الخمر على
شاربها لأول مرة، لكنها تُداري الكثير من السُّم في أنيابها، لتحقنه في المستضعفين
الذين لا يشبهون شيئًا مما ألفناه وعرفناه، والذين لا يلبُّون معايير كاتلوجٍ بشريٍ
غبيٍ يمنح الناس سلطة تحقير وتصغير وتقزيم وإهانة من يختلف عنهم.
الشقيق الغارق في دلال أبيه حتى أدمن
التكنولوجيا وراح ضحيتها هو وأقرانه في القرية، زوج الأم الذي يرى في سلمان عبئًا
آخر يرفض احتماله، شباب القرية الغارقين في اللهو والطيش، وأرواح أخرى لم تظهر في
سياق الفيلم السينمائي، كلهم كانوا يتأبطون بسلمان شرًا. ولكنهم في حقيقة الأمر
بيادق في جيشٍ كبير يزحف فينا وبيننا طوال الوقت، هؤلاء الذين يعتقدون أن بيدهم
الحق في سلب سلام أي روح، وانتزاع الأمل من أي حياة، والتلويح بفرشاة تلوينٍ سوداء
عملاقة في وجه كل من لا يجدون إلى التوافق معه سبيلًا.
بيوت كثيرة فيها مثل سلمان، مدارس كثيرة فيها
أشباه سلمان، ملاعب وطرقات لا يكون فيها الأطفال مثل سلمان مرئيين، وكأنهم خُلقوا
من طينة الهواء ذاتها، وإن أمكن للناس رؤيتهم، وحين يتوقعون أن ما ينبغي أن يحصلوا
عليه هو التقبل والحب، يلاقون التنمر والسخرية والإقصاء والازدراء، هؤلاء الأطفال
الذين لا يُصنفون كطبيعيين في فهارس الكثير من الناس.
لكن يعقوب فتح جرحًا غائرًا عميقًا في
أرواحنا كنا نظن أننا رتقناه بأكياس الملح التي رششناها فيما انقضى من أعمارنا،
نحن الذين كنا نبدو كأطفالٍ طبيعيين، ولكننا في مرحلةٍ ما دهسنا آلامنا النفسية
والروحية وتظاهرنا أننا تخطيناها، حين كنا نتوقع الحب ولا نجده، ونشرئب للأمان ولا
نلقاه، ونجول بأنظارنا حولنا باحثين عن التقدير، فيأتي رجعُ نداءاتنا خواء، ويكبر
الفراغ في أرواحنا مثل بركة وحل عملاقة تبتلعنا قليلا قليلا حتى تُبقي منا بعض
أنوفنا لنشم بها الهواء، ويستمر العالم في التصفيق لنا بصفتنا كائنات سوية أكثر
عقلانية ونضجا من سلمان ونظرائه.
وحين قرر يعقوب التوقف بعد الدقيقة الخامسة
والعشرين، تركني أتساءل: هل كان سلمان سيختار حياته لو كان يعلم أن التوقف عن
البحث المُضني عن الجيتار سيحفظ حياته؟ هل كانت إعادة الجيتار إلى شقيقه المضطرب
أهمّ من كل شيء حتى من حياته؟ والأهم هل فقد سلمان فعلًا حياته في جحيم الأرواح
الملتهبة هذا؟
لا أعرف، أرادنا يعقوب ألّا نعرف؛ ليمنحنا
جميعًا تلك المساحة من التنهد والاغتياظ والتصفيق والتهليل، جميعها في الوقت ذاته،
فيعقوب خير من يحيي المُتناقضات كلها في عملٍ واحد، وهو بذلك قد نجح حتمًا في
جعلنا نمعن التفكير مليًّا فيمن حولنا، وكيف يمكننا أن نكبح جماح النار التي تلتهم
الخير والخيّرين حولنا، والمعذبين والمستضعفين؛ حتى تبرد قليلًا تلك الأرواح
الملتهبة، ويغدو العالم مكانًا آمنًا أكثر لكل الأطفال، ولكل الناس.
بعد العرض الأول، قلت ليعقوب: لا يمكنني
استيعاب أن فيلمًا سينمائيًا عمانيًا بهذه الدهشة والجمال لا يصل إلى كل بيت، وكل
منصة، ويبزغ ضوؤه في كل الشاشات، فبجانب جمالياته الفنية، فإن يعقوب المايسترو
قادر على تحويل السينما من حرفة إلى فن يحمل فوق أكتافه رسائل سامية، الأمر الذي
يجعل السينما أداة ترفيهٍ وتعليمٍ.
شكرًا ليعقوب على هذه التحفة الفنية الثمينة،
تأليفًا وإخراجًا، فوز الفيلم في مهرجان عين كان مستحقًّا وجديرَا، وأوقن أن
السينما العمانية بيد يعقوب وأقرانه ستقفز إلى العالَمية إذا ما وجدت العناية
المناسبة، وهذه دعوة لكل متذوقي الفن وعشّاق السينما من الجهات الداعمة أن يمدوا
جسور عونٍ ودعم لما تتطلبه هذه المرحلة.
تعليقات
إرسال تعليق