برتراند راسل وجدوى الفلسفة

يعد برتراند راسل واحدا من أعظم شخصيات القرن العشرين، ويُعرف بأنه أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية الحديثة، وقد أثرت أعماله بشكل كبير على العديد من العلوم، كالرياضيات والمنطق والذكاء الاصطناعي والعلوم المعرفية وعلوم الحاسب الآلي.
إن الحياة التي قضاها راسل مثيرة للاهتمام وملهمة مثل أعماله، بدءًا من فصله من كلية كامبريدج ترينيتي وكلية نيويورك، والعيش بين حربين عالميتين، واعتقاله مرتين بسبب نشاطه السياسي، إلى إنجازاته العديدة كحصوله على وسام الاستحقاق، وجائزة نوبل للآداب، وكونه شخصية تلفزيونية معروفة، ودوره في وقف أزمة الصواريخ الكوبية، وبهذا يصبح راسل فيلسوفًا استثنائيًا غير مقيد بقاعات الأوساط الأكاديمية فقط.
إن الحادث الذي يسبق نهاية حياة راسل ربما قد يكون هو الحدث الأفضل في وصف شخصيته، ففي سن 89 كان قد سُجن لمدة سبعة أيام في سجن بريكستون بتهمة "الإخلال بالأمن العام" بعد مشاركته في مظاهرة مناهضة للأسلحة النووية في لندن، وعرض عليه القاضي إعفاءه من السجن إذا تعهد بحسن السلوك، لكن إجابة راسل كانت: "لا، لن أفعل.


كتب راسل العديد من الكلاسيكيات طوال حياته الأكاديمية، بدءًا من Principia Mathematica إلى Human Knowledge: Scope and Limits. وقدم في كتابه التمهيدي القصير الذي يعد مقدمة قوية للفلسفة "مشاكل الفلسفة" عددًا من الموضوعات الفسلفية الأساسية، حيث قدم تفسيرًا جميلًا حول أهمية الفلسفة وقيمة ممارستها؛ فقبل البدء، يوضح راسل في هذا الاقتباس سبب وجود موقف رفض تجاه الفلسفة:
"يميل العديد ممن هم تحت تأثير العلم والشؤون العملية، إلى التشكيك في جدوى الفلسفة، حيث يرون أن الفلسفة ما هي إلا تدقيق زائد وخلافات لا نهاية لها حول مسائل قد تكاد المعرفة بشأنها مستحيلة."
ويفسر راسل موقف الرفض للفسلفة بأنه ناتج عن سببين رئيسين، السبب الأول يعود إلى حقيقة أن الفلسفة لا تنتج فوائد مادية ملموسة وواضحة كما يفعل العلم، وثانيًا، لأن الفلسفة غير قادرة على تقديم إجابات حتمية لمعظم الأسئلة التي تطرحها، فلماذا إذن الفسلفة ذات قيمة؟
أهمية الشك
يناقش راسل أنه بغض النظر عن إيجادنا إجابات تُرضي فضولنا، فمن الضروري أن نحافظ على الخصلة التأملية والتفكيرية في الكون حولنا التي تختفي إذا اقتصر التأمل والتفكير فيما يمكن معرفته فقط، لماذا؟ لأن قيمة الفلسفة تكمن في الشك كما يقول:
"يُمضي الإنسان الذي ليس لديه صبغة فلسفية حياته سجينًا في الأحكام المسبقة المستمدة من الفطرة، ومن المعتقدات الشائعة في عصره، ومن القناعات التي نشأت في ذهنه دون موافقة أو وعي منه، بالنسبة لهذا الإنسان يصبح العالم واضحًا ومحدودًا ولا لبس فيه، فكل الأشياء التي حوله شائعة لا تثير الأسئلة، والاحتمالات غير المألوفة مرفوضة رفضًا قاطعًا."
وبمجرد أن نبدأ في التفلسف، نجد أنه حتى أكثر الأشياء المألوفة في حياتنا اليومية تؤدي إلى أسئلة لا يمكن الإجابة عليها. وبينما نبدأ بالتشكيك في ماهية الأشياء، تزيد الفلسفة من معرفتنا بما هو ممكن أن تكون عليه، هذا الشك يزيل الدوغمائية المتعجرفة لأولئك الذين يحتفظون بمنطقة الشك في عقولهم، ويحافظ على الإحساس بالدهشة تجاه الأشياء من خلال تحويل ما هو مألوف إلى شيء غير مألوف.



بُعد التفكير يجعل منا أشخاصًا أفضل

يرى راسل أن تذليل اليقين يؤدي إلى قيمة أخرى مهمة، فمن خلال التفكير في الموضوعات العميقة والمجردة والغامضة، يتسع اهتمامنا بالعالم خارج نطاق اهتماماتنا الخاصة، ومن غير مثل هذا التأمل قد لا ننتبه للأشخاص أو الأشياء التي نتأثر بها بشكل غير مباشر، أو تصنيف الأشياء على أنها تتعارض مع مصالحنا، أو أن نقسم العالم إلى أعداء وأصدقاء، كما يعبر راسل هنا:  
"إذا ما لم نتمكن من توسعة اهتماماتنا لتشمل العالم الخارجي بأكمله، نظل كالحامية في قلعة محاصرة. في مثل هذه الحياة لا يوجد سلام وإنما صراع مستمر بين الإلحاح على الرغبة وعجز الإرادة. بطريقة أو بأخرى إذا أردنا أن نعيش حياة حرة هانئة، علينا الهروب من سجن هذا الصراع، والتأمل الفلسفي هو أحد طرق الهروب من هذا العالم."
نستطيع تحقيق الهدوء من خلال التفكير فيما هو أبعد من أنفسنا، وعلى حد تعبير راسل: " من خلال الكون اللامحدود، يحصل العقل  الذي يتأمله على حصة من اللامحدودية".
إن الروح التأملية في الأفكار تتسرب إلى الأفعال أيضًا: لا يُوسّع التأمل نطاق الأفكار وحسب بل يوسع الأفعال والمشاعر، يجعلنا التأمل مواطنين في الكون وليس فقط في منطقة مسورة واحدة وفي حالة حرب مع من حولها، والمواطنة في الكون تُظهر الحرية الحقيقية للإنسان وتحرره من عبودية الآمال والمخاوف. وبالتالي ممارسة الفلسفة تفتح لنا أبوابًا وعوالم جديدة، مما يجعلنا نفكر بصورة أبعد مما حولنا، يقول راسل:  
"دراسة الفلسفة ضرورة، ليس من أجل إيجاد إجابات محددة على الأسئلة التي تطرحها الفلسفة، حيث لا يمكن، كقاعدة عامة في الفلسفة معرفة ما إذا كانت الإجابة صحيحة، بل من أجل الأسئلة نفسها، حيث توسع الأسئلة تصورنا لما هو ممكن، وتثري الخيالات الفكرية وتقلل من التفكير العقائدي الذي يغلق العقل في وجه الشك والاحتمالات. ولكن قبل كل شيء، بتأمل عظمة الكون والتفكير الفلسفي حوله، يصبح العقل عظيمًا أيضًا."  

المصدر:  
rsmatte-philosophy-why-russell-https://philosophybreak.com/articles/bertrand/
ترجمته إلى العربية:
فاخرة يحيى.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دور الإعلام في إدارة الكوارث

الجامعة والعدالة الاجتماعية: صراعات حول العالم

زمزم البلوشي .. فنانة عمانية برزت موهبتها في الغناء الشعبي